تلقفت الأسماع وتداولت الألسنة نبأ الدّيك الذي باض بيْضة ، وراوي القصة يقول : مِمّا أثار استغرابي أنّ الديك لم ينهض ذات صباح كعادته ، وكأنه قد أكل شعيرا مخمورا في المساء ، فأثار حفيظتي للمراقبة ، وبعد طلوع الشمس من مستقرها ، فوجئت بصعود الديك إلى مكان عال ، ثمّ نظر نظرات حوله ، فإذا بالدجاجات تلهو وتلعب مع ديك جديد ، ولكن ذلك لم يردعه عن كبريائه وما تعوّد عليه ، فنفخ حنجرته ليصيح ، إلا إنّه فوجئ بخروج صوت من حنجرته ، يشبه كأكأة الدجاجة ، وفي أثناء ذلك أحس بحركة في قفاه ورغبة في أن يبيض ، ثم سرعان ما رأيت بيضة تخرج من قفاه .
فما أصدق هذه الحكاية مع ما تشدق به محمد حسنين هيكل ، بحق الأردن وقادته ، ولا غرو في ذلك ؛ فكم من متعنت يحاشر الناس كنفاتهم ، وينْدسّ في ضحضاحهم ، ويماحكهم في غمراتهم ، فلا يزال يتثاءب ، ثم يذهب إلى أهله يتمطى ،ثم يعطس بالقول المفترى ، والإفك العظيم ، والبهتان المبين ، ويهدر بالغث ، ويسْملُ اللفظ البارد ، فيأتي منكرا من القول وزورا ، وبهتانا عظيما ، ينقض أخراها أولاها ، ويلعن بعضها بعضا ، واعجبًا ، وما لي لا أعجب ، ممن يأبى على الشمس أن تشرق ، وعلى الرياح أن تهب ، وعلى النجوم والكواكب أن تدور ، وعلى البحار أن تهيج ، وعلى السحاب أن تمطر، وعلى الزرع أن ينبت ، وعلى الصبح أن يتنفس ، وعلى الليل أن يغشى ، وعلى النهار أن يتجلى ، إلا إذا صدر بأمره ، أو تماشى مع أمنيته ، أو شاءت مشيئته ،أو أرادت إرادته ، أو ما تماهت مع كينونته ، أو طابت نفسه ، أو ما خامر عقله وحفيظته ، فهيْهات هيْهات ، أيها الناعق ، .......وعلى رسلك أيّها المشاغب المغرور ، أبعد التيّا والتي ؟ فما أنت بالخصم نحذر خُصومته ، وما أنت بالحكم الْتُرْضى حُكومته ، ولولا أنّنا روينا في الأثر ، قول القائل : خاطبوا الناس على قدر عقولهم ، لضربنا عنك صفحا ، وطوْينا دونك كشْحا ، فلم أتجشم الرّقاع ، ولا قبضتُ اليَراع ، ولا حَثثْتُ مطيّة العقل إلى منابع التاريخ ، وأعطاف الزمن ، مشقة الردّ عليك ، ولم أعبأ بما خيّل الشيطان إليك ،أو ما دُفع من الدولارات إليك ، ولكنْ مهلا رويْدا ، فلربّما يكون فيما نسمعُك ، توبة نصوحا تحسِنُ خاتمتك ، وأنت إذْ بلغتَ من الكِبَر عتيّا ، إلا إذا تَمَوْسقَ قوله تعالى : ( ومنهم من نردّه إلى أرذل العمر ) مع حالِك ، وترديدِ مقالِك .
وممّا لا شك فيه أن تاريخ الأمم ، هو التاريخ المطوي بين ثنايا السطور ،والمسطر بين طيات الرقاع ، والمحفور في ذاكرة الكتب ، وهو التاريخ الشاهد ، والحكم العدل ،الذي يرجع إليه عند الحاجة ، وهو البيان العدل الذي لا ينطق إلا ما وعاه وعاؤه ، وليس التاريخ ما تشدق به المتشدقون ، وتخرص به المتخرصون ، وشاغب به المشاغبون ، وبخاصة إذا كان هؤلاء ممن يتكئ على أرائك الظنون ، و وسائد الكذب ، أو يتجلبب بتزوير الحقائق ظنا منه أنّ الكذب يكون على الأحياء وليس الأموات ، مع العلم أنّ الكذب يكون على الأموات وليس الأحياء كما يقولون ، فلا أحدا يحاسبه على تزوير الحقائق ، وبخاصة إذا علمنا أنّ جيل هيكل ومن شهدوا تلك الوقائع من المغمورين في التراب ، تراب القبور ، ولذا لا مندوحة للباحث والمفكر والعقل الواعي ، الذي لا يأخذ ما يأخذ إلا على بصيرة وبينة ، ولا يذر ما يذر إلا على بصيرة ومحجّة ، ولا يكتفي بالخبر عن المعاينة ، ولا يستغني بالوزن عن الموازنة ، أن ينظر أعطاف تلك الحقبة الزمنية ، بل تلك الحقب التي كان آل هاشم ، أمراؤها وحكامها وملوكها ، من العصر الجاهلي إلى الآن ، فإنّ في ذلك زيادة ثقة في الحُجّة ، واستظهارا على الشبهة ، واستبانة للدليل ، وتبيينا للسبيل ، ومعرفة للحقيقة ، وإذا كان ذلك كذلك فأنت أمام حقائق ناصعة ، لا يمكن أن ينكرها إلا من ظنّ أنّ ضوء الشمس تحجبها الغرابيل ، وأنّ ماء البحر تمنعها الأكف ، فانظر – يا يرعاك الله – كم كابد العرب زؤام الضنك ، وكم رزحوا تحت أعباء الضيْم ، حتى أذن الله بانقشاع الغواية على أيدي أبناء هاشم ، ولاغرو فالتاريخ شاهد ، ينطق بحجة الله من الوجه الذي يزداد نورا ، ومن الطريق الذي هو آمن من الشك ، وأبعد من الريب ، وأحرى بأن يبلغ سامقة اليقين ، أجل ، التاريخ شاهد ، شاهد على أبناء هاشم ، الغر الميامين ، فلقد كانوا في كل مرّة أمضى من السلاح ، وأنفذ من السهم ، لا يضرّهم من خالفهم ، حتى يقوّموا انحناء ظهر العرب ، وكانوا في كل مرة يستلوا الحق من خاصرة الباطل ، والتاريخ شاهد ، ولمن احتجبت عليه شمس رابعة النهار ، فلينظر وليسأل زمزم والصفا ، والعلم والحجا ، بل يسأل حلف الفضول ، ودار الندوة ، وبدر، وأحد ، ومؤتة ، واليرموك ، وغيرها فكلها شاهدة محفورة في ذاكرة التاريخ ، لا ما يتخرص به المتخرصون ، أو يتشدق به المتشدقون ، وإذا ما انتقلنا إلى عصر الأتراك وما كابده العرب من زؤام المسغبة ، وشنق العلماء ، ونشر الجهل في أرجاء بيضة العرب ، واستعباد العامة ، واستحياء سواد الأمة ، والنيل من شرفاء مكة والمدينة ، وووووو من الأعمال التي يعجز اليراع عن وصفها والإحاطة بها ، أجل التاريخ شاهد .
فمن حرر العرب ؟ ومن نهض بهم ؟ ومن أيقظهم من سباتهم العميق ، ولولاهم لكنت أنت أيها الناعق رقّا قد استحيا الأتراك نساءك وقتلوا أطفالك ، ولكنت تعبد الآن عجلا له خوار ، ولكنّ إباءهم أبى إلا أن يحرروا العرب من غياهب ظلم الأتراك ، وفي فلسطين الأبية فلسطين العروبة والإسلام ، ينبئوك شاهدهم عن غائبهم ، فما نكصوا وما استكانوا ، في نصرة أهلنا في فلسطين لحظة ، وما زالوا على العهد الذي توارثوه أكبرا أكبرا ، كابرا عن كابر .
مهلا رويْدا ، أجل التاريخ شاهد ، لا ما تنطستَ به أيها المغرض ، ولا ما تفوهتَ به أيها المرجف ،
فواعجبا ، كم يدعي الفضل ناقص ، ويحك أيها المهرّج ، وهل تظن أننا في خبل مما ترويه ، إنّ سيرة الأردن في الدفاع عن ثرى فلسطين ، مكتوبة بدماء أبنائنا وآبائنا وأجدادنا ، لا ما يتنطع به لسانك المأسور بالدولارات ولا عقلك المصاب بالزمهرير ، أجل ونعم .
وليس لآل هاشم ذنبٌ إلا العلا والفضائل ****** وما لكم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل ،
ويْها أيها الحاقد ، وكأني بك تعلن للملأ أنك أنت وحدك الصادق والمخلص ،وأنك أنت الأكبر دون سائر البشر ،وكأني بك تجلس أمام مرآة محدبة فرأيت نفسك ضخما ضخما ، فغرّتك الأماني غرورا كبيرا ، حتى نسيت أنّنا نحن الأردنيين نعي الحقيقة وعيا لا يخالطه الريْب ، وأننا نثق بآل هاشم ثقة لا نحيد عنها قيد أنملة ، وأننا قد عقدنا البيعة لجلالة مليكنا سليل الدوحة القرشية ، ومنبت العز والكرامة ، وعميد آل هاشم ، الذي لم ولن يتوانى لحظة في نصرة أهلنا في فلسطين ، ولن يألُ جهدا في استرداد الحق وإعادته إلى أهله ، مهما تخرّصتم ، ولئن جاشت علينا صدوركم بالأحقاد ، وامتلأت أحشاؤكم بالسخائم ، ونغلت قلوبكم بالعداوة ، فقد وسعتكم مخازيكم بطابع الذل والهوان ، وكفتنا مئونة البحث والبيان . ويكفينا من العقد ما يحيط بالعنق . ويكفيك من الغل ما يهوي بك إلى مكان سحيق . وليت شعري لماذا يكرهنا بعض الجاهلين على الإغضاء عن موبقات من أغضى الطرف عنهم ، ومال بوجهه عنهم مع أنهم هم أحقّ أن تُتْلى الحقائق المشينة بحقهم وهو أعرف بهم منّا لقربه من أريكتهم ، وصولجان تضليلهم ، وما تواكأوا عليه لخذلان العرب . آه ثمّ آه من دهر داهر ، وزمن جائر ، ولا عجب في خضم ما نسمع ونرى كل يوم ، ولا عجب إن قالوا في هذه الأيام إنّ الثور يحلب ، وإنّ الديك يبيض ، وإنّ القرد يتكلم بلسان الإنسان ، وإنّ البغل وَلَدَ حمارا . فقد أصبح الوازن موزونا ، والكاذب صادقا ، والخائن أمينا .
الدكتور محمود سليم هياجنه