- كانت الشمس قد انهت رحلتها مساءً... وبدأ ظلام خفيف رحلته الجديدة .. كنت إبن الثالثة عشرة جالساً مع اسرتي , وكان بجوار منزلنا في ضاحية الأمن العام في ماركا مركزا أمنياً لقيادة الشرطة العسكرية للأمن العام , هكذا كان اسمها حينها , حدث عندهم جلبة .. اصوات تتعالى حركة غير طبيعية للافراد والضباط والسيارات ...ولكون الاوضاع الأمنية لم تكن مستقرة بعد , فقد طلب إلي والدي رحمه الله بالذهاب الى المركز والاستفسار ان حدث طارىء جديد , حيث كان جميع الضباط من اصدقاء والدي بحكم عمله السابق في الأمن العام وبحكم الجيرة ... ذهبت فورا واستفسرت من أحد الضباط وقال لي انه وردتهم معلومات بانهم قتلوا وصفي التل .. يالهي ... رغم سني وحداثتي نزل الخبر عليّ كالصاعقة ... إقشعرّ بدني وانتابني حزنٌ شديد ..كدت ابكي امام الضابط .. ولكنني حبست دموعي ... لا اعرف لماذا ..عدت الى المنزل ببطىء شديد , كيف سأوصل الخبر الى والدي ؟؟.. ماذا اقول له ..؟؟ دخلت المنزل وفور دخولي سألني والدي رحمه الله .. آه سألتهم ... شو في .. ؟؟ أجبته نعم سألتهم , كان والدي يتناول العشاء مبكرا كعادته حين كان عسكريا .. نظر الي وقال ..شو حكولك ؟؟ اجبته .. وصفي التل إنقتل .. نظر الي وقال شو ؟؟ قلت يقولون انهم قتلوا وصفي التل في القاهرة .. اذكر انه كان أمامه صينية المونيوم عليها بعض الطعام وخلال اجزاء من الثانية كانت الصينية وما عليها تتطاير في السماء ..ذهب الى الراديو ليتفقد المحطات .
في اليوم الثاني لاستشهاد وصفي نزلت وشقيقي محمد ( المهندس الآن) مع والدي رحمه الى السوق ( وسط البلد) وكانوا يوزعون او يبيعون صورا لوصفي التل على الأرصفة , حصل والدي على صورة كبيرة اذكرها جيدا وكانت بالأبيض والأسود وهو يرتدي الشماغ ويرتدي بلوزة صوف سوداء لها قبه عالية , الصورة كانت اكبر ما رأيت من الصور في حياتي , قام والدي بطيها واعطاني اياها واوصفني محلا لعمل البراويز قرب المسجد الحسيني وسط البلد , وذهب هو الى محل مجوهرات يعود لصديق له يدعى رجب دعنا ( ابو سعود ) رحمهم الله الإثنين ورحم امواتنا جميعا , وعلى أمل ان نعود اليه بالصورة ( مبروزة ) ... كانت الأجواء مشحونة والناس تحضر من كافة المحافظات وكانت جميع خطوط الباصات والسيارات تصب في شارع الهاشمي ,.. كانت بعض سيارات اللاندروفر للبادية وقد قام العسكر بقلب الشماغ الأحمر تعبيرا عن الحزن والحداد .. وخلال ساعة كانت الصورة جاهزة باطارها وزجاجها .. وأصرّيت على حملها دون شقيقي محمد الذي يكبرني بسنة .. وكان لي ما أردت .. حين خرجنا من المحل شعرت بثقل الصورة وبكبر حجمها وانه يصعب حملها بين اليدين بشكل طبيعي , فقمت ورفعتها عالياً ووضعت قاعدتها السفلى على رأسي ومسكت جانبيها بيدي الاثنتين , وخلال دقيقة واحدة او اكثر بقليل كان خلفي مئات الاشخاص يسيرون ويخطون على نفس خطاي وكانهم يتبعونني ... بعد لحظات بدأت الهتافات الغاضبة .. نظرت انا وشقيقي الى خلفنا متسائلين عما يحدث ... حاول رجل كبير اخذ الصورة مني لحملها ..الا انني رفضت ورفضت بشدة , اكتشفنا ان من خلفنا هي مظاهرة كبيرة وغاضبة , والإكتشاف الاكبر كان انني اكتشفت أنني هو من شكّل وقاد هذه المظاهرة حين وضعت الصورة على راسي عالياً , ... خلال دقائق بدأت تعزيزات الأمن تتدفق الى شارع الهاشمي وبدأت سيارات البادية والشرطة والضباط والافراد بأخذ مراكزهم في مواجهة هذه المظاهرة الكبيرة والأولى منذ الاعلان عن استشهاد وصفي التل , اكتشفت حينها أن الناس في السوق كانوا ينتظرون من يعلق الجرس ...ليعبروا عن سخطهم وغضبهم لهذا الاغتيال الآثم للكرامة والعزة الاردنية ولشرف الوظيفة وأمانة المسؤولية الوطنية والتي بكل أسف نفتقدها حاليا .. لا بل نشتاق اليها , فوصفي كان مغرما بحب الاردن والاردنيون ولم يكن مغرما بالسينما بالرغم من وجود سينما الرينبو وزهران وعمان وامير ....وكان رحمه الله مغرما بإثراء الاردن لا بافلاسه وبيع منجزاته ومقدراته..!!!
لنعد الى المظاهرة .. وأنا أسير في مقدمة المظاهرة ولا اعرف اين سأذهب واين سانتهي .. حتى المئآت من خلفي لا يعرفون اين هم ذاهبون .. وافكر واخطط كيف سأنهي ذلك ؟؟ فانا صغير وليست لدي خبرة في هذه الامور .. هل أهرب ؟؟؟ ... هل اترك المئآت بلا قائد وبلا صورة ..؟؟ لاحظوا جيدا ... المهم الصورة .. أثناء هذه اللحظات جاء الفرج من رب العالمين ....سمعت صوتا مناديا وعاليا .. توفيق .. محمد .. توفيق .. نظرت الى مصدر الصوت , واذ هو ضابط الأمن العام ياسين ضامن المجالي ( ابولؤي) ولم يكن لؤي قد قدم الى الدنيا بعد , فسوريا (ام لؤي) اعتقد انها كانت حاملا به .. وكان يدعي ابو هنادي او ما شابه ذلك على ما اذكر وكان جاراً لنا بالسكن بالاضافة لمركز عمله وكان صديقا للعائلة ... اقترب من مقدمة المظاهرة وقيادتها وهو ( أنا) وقال .. شو اللي قاعد بتساويه ... ؟؟ ابو محمد – ويقصد والدي رحمه الله – بعرف عنك انك عامل هيك انت وأخوك وكان ينظر ايضا لشقيقي محمد ويوجه نفس الاسئلة ؟؟ كان صوته عالياً ومدوياً , وانتابني شعور بالاحراج بقول الحقيقة له على مسمع الجميع .. وحين اقترب مني اكثر قلت له الحقيقة ... قلت له ما حدث بالضبط وانها اتت بشكل عفوي وهذا ما حدث ... سحبني وشقيقي من مقدمة المظاهرة ورافقنا لمكان وجود والدي , واستمرت المظاهرة متقدمة .. وعلمت لاحقا انها استمرت باتجاه مدخل القصور الملكية العامرة في طريقها الى المقابر الملكية حيث ووري جثمان الشهيد الثرى اول مرة هناك .
ناشر \" ديرتنا نيوز \"