الفقر والبطالة، تفشّي الواسطة والمحسوبية، ارتفاع الدين العام، تردّي البنية التحتية، تراجع الحريات العامة، تراجع الاستثمار، ضعف السياسة الخارجية، عملية "إربد"، الحادثان الارهابيان المشؤومان اللذان استهدفا منشآت عسكرية، الاشتباكات في لواء "ذيبان"، وغيرها من الأمور التي شكلت إحباطاً وصدمات متتالية للشارع الاردني في الآونة الاخيرة، لا يجب ان تمر هكذا مرور الكرام دون استقاء العبر، ودون تقييم حقيقي لأوجه النقص الذي يجب ان يخلو من أية مجاملات أو كلام معسول او جلدٍ للذات.
حلقة صنع القرار الضيقة –بالتأكيد هي ليست الحكومة- سارعت بتهنئة نفسها بأن الاردن قد اجتاز ازمة الربيع العربي بسلام، في حين انها نسيت او تناست ان قواعد لعبة الربيع العربي في الاردن تختلف اختلافاً كلياً عن نظيراتها في الدول العربية الاخرى، فالنظام الاردني لم يكن يوماً محط خلاف أو اختلاف بين الاردنيين، ولا أورد هنا هذا الكلام تملقاً او تزلّفاً، فالأردنيون جميعاً يعلمون علم اليقين بأن بقاء الاردن مرهون ببقاء هذا النظام، ومطالب الشارع الاردني كانت وما زالت متعلقة بالحريات العامة وبإيجاد حلول حقيقية وملموسة لمشاكل الفقر والبطالة والواسطة والمحسوبية وهدر المال العام.
"الحلقة" التي زيّنت لجلالة الملك مغادرة الاردن لمرحلة الخطر، وانخراطه شخصياً في إدارة العمليتين السياسية والأمنية، حتى تختبئ خلفه فيما بعد، قادت الدولة الاردنية الى مشاهد غدت معها مرتبكة ومتسرّعة، فالمعوقات الاقتصادية ما زالت قائمة، ومسوغات الحريات العامة لم ولن تغادر الشارع حتى وإن غاب المواطن عن النزول الى الشارع، كما ان التحديات الامنية -الخارجية والداخلية- لم تضع أوزارها بعد، في حين ان الحلول المنتظرة تساقطت واحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف.
تغليب الجانب السياسي على الجانب الأمني، وتدخل رجال السياسة في القرارات العسكرية، بالاضافة الى المساس بالدور الاساسي المنوط بالجيش ليشمل ادواراً انسانية وإغاثية، كل هذه الظروف مجتمعة وضعت الأمن الوطني على المحك، فالجيش حذّر في عديد المناسبات من الخطر المحدق بالواجهة الشمالية للبلاد، وألا نمضي قدماً في استقبال المزيد من اللاجئين، وهذا بالطبع لا يتنافى مع مبدأ الوقوف الى جانب الأشقاء في كل مكان، دون المساس بأمن الوطن في المقام الأول، الا ان "حلقة صنع القرار" آثرت مطاردة سراب مؤتمر لندن للمانحين، والجري وراء وعود المجتمع الدولي التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبذلك انتهى بنا المطاف على باب "مذبح" صندوق النقد الدولي!
انفلات ارقام الدين العام وما تبعه من عجز في الموازنة العامة، والذي وضع رقابنا تحت رحمة سكين المساعدات والقروض المشروطة، كان نتيجة لثلاثة محاور رئيسية، أولها هدر المال العام المتأتي من تضخم الجهاز البيروقراطي، وثانيها تحمل الاردن لنفقات اللجوء السوري، وثالثها ارتفاع ديون شركة الكهرباء الوطنية الناتج عن استخدام الوقود الثقيل والديزل لتوليد الكهرباء بسبب انقطاع الغاز المصري، اما فيما يخص الجهاز البيروقراطي، فالوزارات والهيئات والمؤسسات التي تتشابه في المهام وتختلف في المسميات، والتي يعمل فيها جيش جرار، ما زالت تفرّخ هيئات ومؤسسات جديدة تستنزف معها الموازنة العامة للدولة برعاية رسمية، وبدون نتائج حقيقية تذكر.
انصياع الاردن لمطالب المجتمع الدولي واكتفاؤه بالشكر والمديح واعتلاء منصات المؤتمرات الدولية لقاء استقبال موجات اللجوء السوري، صنع أزمة حقيقية تضاف الى أزماتنا المتراكمة، وما كان في السابق دوراً إنسانياً أصبح فيما بعد واجباً علينا تنفيذه، ولم ندرك حقيقة مشكلتنا الا بعد فوات الأوان، وها هي منظمات الإغاثة الدولية تطالبنا –بصيغة الأمر- ان نفتح أبوابنا لاستقبال المزيد من اللاجئين، غير آبهة بالاعباء الاقتصادية والأمنية التي يرزح الاردن تحتها.
أما وقد منّ الله على الشقيقة مصر بأشقاء عرب مدّوا لها يد العون، وأغدقوا عليها العطايا، فانجلت غمامة محنتهم، وشرعوا بتنفيذ المشاريع التنموية والاقتصادية، وزيادة التسليح العسكري، فقد بات من المعقول ان نطالب الدولة المصرية بتعويضات انقطاع الغاز، كما هو مبرم في الاتفاقية الموقعة بين البلدين، والتي تحمّل المواطن الاردني أعباءها طوال الأعوام المنصرمة، فهذه الأموال هي أموال عامة، وهي حق للشعب الاردني، ولا يملك كائن من كان ان يغض الطرف عنها او ان يتهاون في تحصيلها.
الاعتراف بالذنب فضيلة، وخير لنا ان ندرك مخاطر الطريق الذي نسير فيه قبل ان يفوت الأوان، والحقيقة التي يجب ان ندركها جميعاً هي اننا لم نعد في الاردن نملك ترف الوقت لتجريب المزيد من السياسات الفاشلة او المقامرة بالوطن وأمنه
محمد يوسف الشديفات