من حقنا جميعا أن ننظر إلى العاملين في ميادين العمل التطوعي المختلفة الخيرية و الشبابية و النسوية و المهنية و العمالية والاجتماعية و الدينية و الثقافية نظرة إيجابية تعتبر دوافعهم نبيلة و بناءة تهدف إلى تنمية مجتمعهم و تحقيق ذواتهم و الشعور بلذة العطاء و البذل التي وصفها الشهيد سيد قطب رحمه الله في آخر كتبه (أفراح الروح) فأبدع في وصفها، و تحدث عنها الإنجيل قائلا: \"جميل هو العطاء كما هو الأخذ\" و هو شعار أهدتني إياه مجموعة من الراهبات المصريات في دورة تدريبية جمعتني بهن في مدينة \"فايد\" بالإسماعيلية قبل عقدين.
و لكن هل هذه الصورة الناصعة الجميلة هي الوصف الحقيقي للدوافع الفعلية للعاملين في ميادين العمل التطوعي المختلفة في بلدان العالم الثالث و خصوصا أن مساءلات أمنية و ملاحقات ترتكب بحق هؤلاء النشطاء و بالذات في الاتحادات الطلابية و العمالية و الجمعيات الحقوقية لأن معظمهم ينطلق من إطار حزبي منظم و معارض للحكومات القائمة و يتخذ من هذه المؤسسات التطوعية واجهات قانونية للنشاطات المناوئة و التحشيد الحزبي؟!
في رأيي أنا أعتبر سعي الاتجاهات الحزبية للتغلغل في مؤسسات المجتمع المدني و الميادين التطوعية سعيا مشروعا، لأنني أفترض في المجتمع الحديث القائم على الحرية الفكرية و السياسية و التبادل السلمي للسلطة أنه مجتمع متحزب و مسيس كما هو الحال في معظم دول العالم الديمقراطي المتقدم التي كثيرا ما تسيطر أحزاب اليسار فيها على الاتحادات العمالية لتطبيق برامجها، شريطة أن لا يتم استغلال المال العام و المرافق العامة و الصلاحيات القانونية و الوظيفية استغلالا حزبيا فئويا ضيقا.
و نعود مرة أخرى إلى التساؤل: هل يوجد دوافع أخرى غير الدوافع النبيلة من بذل و عطاء و تحقيق بناء للذات و غير الدوافع المشروعة –في نظري- من فكرية و سياسية و مبدئية و إصلاحية؟ و أقصد بصراحة هل هناك دوافع غير نبيلة تدفع المتطوعين إلى بذل الجهد و الوقت و المال و التضحية بالتعرض للمساءلة و الملاحقة؟ و الجواب .. نعم هناك العديد من الدوافع غير النبيلة.
نعم .. هناك حب الذات و ليس تحقيق الذات و دون حب المجموعة و المؤسسة و المجتمع و الوطن، و الذي يترجم حبا للظهور و الشهرة و الزعامة و البريق الإعلامي، و لو على حساب المبدأ و المال العام و استخدام كل الإمكانيات و الصلاحيات للتلميع الصحفي و التلفزيوني و الجماهيري.
أيضا نعم .. هناك دافع الوصول إلى المنصب باعتبار مؤسسات العمل التطوعي مركب مضمون للوصول إلى شاطئ المناصب المرموقة أو الرافعة العملاقة لتحقيق الفوز بالانتخابات البرلمانية، و في هذه الحالة أيضا يكثر استخدام المال العام و الإمكانيات المخصصة لأهداف المؤسسة الطوعية في الوصول بسلام إلى الأهداف الشخصية أو الفئوية.
و كذلك نعم .. هناك دافع تحقيق المنفعة المادية على اختلاف أشكالها و تعدد درجات رمادية أو سواد فسادها و إفسادها، بدءا من استغلال المنصب و السلطات و الصلاحيات في تحقيق الثراء و انتهاء باستغلال ثقة الجمهور بالعمل التطوعي و العاملين فيه لتحقيق المكتسبات و عقد الصفقات و تحليل العمولات.
و أخيرا و ليس آخرا .. نعم .. هناك دافع غير نبيل و لكنه أقلها شأنا و أوسعها انتشارا و أكثرها وضاعة، و هو الذي يتمثل بقول النبي صلى الله عليه و سلم (يبيع دينه بعرض من الدنيا) قليل زائل، فهؤلاء المتطوعون غاية مقصودهم رحلات مجانية أو سفرات مع فريقهم التطوعي، ظاهرها العمل و الإنجاز و التضامن و العطاء و الإفادة و تبادل الخبرات، و باطنها السياحة و المتعة و تغيير الأجواء و الهروب من تبعات العمل و التلذذ بالولائم و أكل المياومات بغير حق، و قد ترى من هؤلاء المتطوعين من يقيم في سفره أكثر من إقامته في بلده و مؤسسته التي تطوع للعمل فيها و سافر باسمها و على نفقتها.
قد أتفق مع قارئ مقالتي هذه أو أختلف حول نسبة الدوافع النبيلة و غير النبيلة لدى العاملين في المؤسسات التطوعية في وطننا و أيهما أعم و أغلب، و كثيرا ما تختلط هذه الدوافع بشقيها لدى نفس الشخص أو نفس المجموعة التي تسيطر على المؤسسة التطوعية، لتؤكد لنا بأنه لنا الظاهر فقط و عليه نحاسب، أما الباطن و النوايا و الدوافع التي في الصدور فإن لها يوما قال عنه صاحبه : ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور* و حصل ما في الصدور* إن ربهم بهم يومئذ لخبير* ).
المهندس هشام خريسات
hishamkhraisat.gmail.com