تتلاقى عقاربُ الساعةِ معلنةً الثامنة صباحاً ، فتفتحُ الشركاتُ والمؤسساتُ والمكاتبُ والدوائرُ الحكومية أبوابَها ، ويتوافدُ الموظفون إلى أماكن عملهم ، وخلال وقتٍ قصيرٍ ينتظمُ عقدهم ليبدأ يومُ عمل جديد.
وفي كثير من هذه المؤسساتِ والدوائرِ يكون التعاملُ مباشراً مع الجمهور من أجل إجراء معاملاتهم ، فنجد الكثير من هؤلاء المراجعين ينتظرون قبل الثامنة على أبواب هذه الدوائر عسى أن تنتهي معاملاتهم باكراً.
يدخل المراجع إلى أحد المكاتب ويلقي تحية الصباح على الموظف الذي ينظر باستخفاف للمراجع مندهشاً من تعجله وقدومه باكراً ، فيعتذر المراجع ( عن عمله السيّئ ) ويبرّر ذلك بأخذه ( لساعة مغادرة ) من عمله حتى ينهي معاملته ، ويقدّم للموظف ملفّ معاملته ، فيقلّبها بتثاقل ويقول بحسم : ( المكتبُ المجاور ) !!
وتطيرُ المعاملةُ في جولةٍ روتينية طويلةٍ بين طوابق المبنى ومكاتبهِ المتناثرة ، فهذا يرسلك لزميله من أجل ختم أو طابع ، وهذا يريد مطابقة التوقيع الأول مع الثاني ، والثالثُ يخبرك أنّ جزئيّة معيّنة لم تتوفر في معـاملتك فإن اعترضت يقول لك :اذهب للمكتب في الطابق العلوي ، عند الآنسة ( فلانة ) ، فتذهب ولا تجد فلانة فهي قد قدّمت لإجازةٍ طارئةٍ ، وتبحث عمّن يحلّ محلها فلا تجده لأنه أيضاً أخذ إجازةً عارضة لأن زوجته ستضع مولودَها ، فتبارك له غيابياً وتسأل عمّن يحل مكانه وعندما تبحث عنه خلف مكتبه لا تجده ، بل تجده يثرثر على هاتفه الخلوي في أحاديث عابرةٍ لا تسمن ولا تغني من جوع ، ويُشيرُ لك أن تنتظره حتى ينتهي ، فتبتسم متـظاهراً بالتفهم . وعندما لا ترى بوادرَ انتهاءِ المكالمةِ تشيرُ له فيحاولُ التملصَ ويتأفّف بحدّةٍ وهو ينهي المكالمة ويعدُ بالاتصال بعدَ خمسة دقائق ، ويحدجك بتلك النظرةِ القاسيةِ الجافة ، فتعتذر له على أساس أنّ (صاحبَ الحاجةِ أرعن ) ، فيقلّب الورقات ويقول لك ببرود : ( لا أعرف لم جئت إلى هنا ، معاملتك عند الأخ \" أبو فلان \" – المكتب الثاني على اليمين ) !!
أما بالنسبة لعدم الابتسام في وجه المراجع والاستخفاف به وعدم احترامه فهذه قصة أخرى وهناك من يقف مع زملائه بوجود العديد من المراجعين ويتهامسون ثم ينفجرون ضاحكين دون مراعاة لظروف المراجعين وحاجتهم ، وإن كانت هناك (مراجِعة أنثى وجميلة ) فستحظى بأولويةِ إنهاء معاملتها على الرّجال - حتى لو جاءت منذ دقائق وهم يقفون منذ ساعات - ، وترى الموظفين ينشغلون بأحاديثهم وفي التدخين والمكالمات الخاصة وشرب المشروبات وتصفح الإنترنت وقراءة الصحف والمجلات، فيما تلاحظ تراكم المعاملات على مكاتبهم بلا مبـالاةِ أو اكتراثٍ.
وما أن تشيرُ عقاربَ الساعةِ إلى الثانيةِ حتى يبدأ الموظفُ بالتململ أمام المراجع ويقول : \" دعِ المعاملة للغد لأنّ الدوامَ على وشكِ أن ينتهي !! \" فإن قلتَ لا زالت السّاعة الثانية فقط ، يقول : \" لن تنهيها اليوم أصلاً ، الله يعينك ، تعال غداً باكراً \" .
هذا ناهيك عما يحدث وراءَ الكواليس من ضربِ الأسافين والنفاق الاجتماعيّ والوصوليةِ والرّشوةِ - تحت مسمّى ( هدايا ) - ، ونقل أحاديثَ مغلوطةٍ بحجةِ الوصول إلى قلبِ المسؤول ودعمه ، وزعزعة وضع المنافس ، مما يزيد فرص الترشّح لمنصبٍ أعلى ، وهذا يجعل المنافقَ الوصوليّ يصل ، فيما تضيع الكفاءةُ والتميّزُ أدراجَ الرياحِ !! وكذلك الإساءةُ بالتعليقاتِ المُحرجةِ لزميلات العمل خلال الحمل وحصولهنّ على إجازة الأمومة .
ترى هل نحن مواطنين صالحين ؟؟ أليست المواطَنة الصالحة أن تقوم بعملك على خيرِ وجهٍ ، ليكون راتبكَ حلالاً ، وتساهم في رفعةِ مجتمعك وبالتالي سعادةِ الأفرادِ الذين ساعدتهم مما ينتج عنه الخيرُ العميمُ على الجميع بما فيهم أنت ؟؟ ألن تتحسن الدُّخولُ الفرديّة وتزيد إذا زاد الناتج القومي وازدهر ؟؟ وأنا أثق دوماً بوجود مثل هذه الفئة الطيبة من الموظفين الخلوقين الملتزمين الباحثين عن طاعة الله ورضاه في كل أعمالهم .
وأضيف ، على كل مواطن أن يعمل على صون ذاته من الفساد الأصغر ، حتى لا يعمّ الفسادُ الأكبر ، وعلينا أن نهذّب سلوكنا حتى يتسقّ مع ما أمرنا به دينُنا الحنيف بقوله عليه السلام : ( إنّ الله يحبّ إذا عملَ أحدكُم عملاً أن يتقنه )، فالحسّ بالمسؤولية واجبٌ وطني وإنسانيّ ، وتقدير ظروفِ الآخرين خصلةٌ إسلاميةٌ طيّبة ، فلنحاول دوماً أن نبدأ بأنفسنا ولا ننتظرُ معجزةً . فالموظفُ عليه أن يدرك أنه مِلكٌ لوظيفته منذ الدقيقةِ الأولى لوصوله حتى آخرِ دقيقة في الدّوام ، له خلالها فترةُ راحةٍ معقولةٍ ، ولا يجوز له استغلالُ وقتِ الدّوام في عمل أيّ شيءٍ خاص - إلا إنْ حدثَ طارئٌ – وأنّ المراجعَ إنسانٌ من حقه أن يُعامَل بالحُسنى واللّين ، وأنْ تكون هناك محاولةٌ جادّة لمساعدته وإنهاء معاملاته بسرعةٍ مع ابتسامةٍ لن تكلّفَ أحداً مالاً ولا ثروة. وعندما نتعاملُ مع الموظفين الآخرين كإخواننا ونترك الأكفأ ليكون في المكان الأنسب ، عندها سنحصل على حياةٍ أفضلَ وإنجازٍ أكثرَ. ولا نريد أن نكون كما قال الشاعر: ( نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا * * * * * * * * * وما لزمانِنا عيبٌ سوانا )
nasamat_n@yahoo.com