عندما كنت صغيرا –وكنت أعيش في الخليج العربي- شاهدت ذات مساء برنامجا وثائقيا على إحدى محطات التلفزة الخليجية يعرض أحداث المعركة الإسلامية الخالدة –معركة مؤتة، وصورت الكاميرات ساحة المعركة ولم تكن يومئذ جامعة مؤتة -هذا الصرح الشامخ الأبي- قد أقيم بعد، ولكن القوس البديع للمشهد المعماري المملوكي الذي أقيم في البقعة التي استشهد فيها القادة العظام: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم –زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم- لم يزل يلمع في مخيلتي كلما استذكرت هذا الحدث العظيم الذي غير العالم وهو يمثل أول مواجهة بين دولة الإسلام الناشئة وأعظم قوة آنئذ في العالم.
وظلت زيارة هذه البقعة الطاهرة من أرض الوطن رغبة ملحة تحققت صبيحة الجمعة الماضية عندما وطئت قدماي ذللك التراب الطاهر المجبول بدماء الشهداء الكرام على مرمى حجر وبضعة أمتار من سور الجناح العسكري لجامعة مؤتة –مصنع الرجال حماة الديار وسياجها المنيع، ولم أتمالك نفسي وأنا أجهش بالبكاء من شدة التأثر واستحضار الموقف العظيم للتضحية والإقدام والفداء من (زيد) حب الرسول صلى الله عليه وسلم و(جعفر) الطيار بجناحين في الجنة و(ابن رواحة) وهو ينشد:
أقســمت يا نفس لتنـزلنّه لتنــزلنّه أو لتكرهنـّـه
قد أجلب الناس وشدّوا الرنّه مالي أراك تكرهين الجنـّـة
ولدى صعودي لأرض المشهد الذي أقيم في عهد ليس بعيدا لا أظنه يتجاوز العقد أو العقدين بجانب الصرح المملوكي الصامد عثرت قدمي بدرجة محطمة وقد انسلخت عن أرضه المبلطة بلبنات قد انتزع بعضها، وإذا بالصرح القائم أمامنا والمسطر عليه أسماء الشهداء وحادثة استشهاد كل منهم بالرخام الأبيض قد تعرضت للتخريب بفعل فاعلين وتكسير أدوات ثقيلة وحادة كسّرت وحطمت جزءا كبيرا من الصرح وتناثرت قطع الرخام على الأرض تكاد تدوسها أقدام الزائرين الحزانى لهذا المشهد، والذين سارع بعضهم لجمعها عن الأرض وتصفيفها على سطح الصرح العلوي تكريما لأسماء أشراف الأمة وسادة أهل البيت الأطهار والصحابة الأخيار، فأخذت أتصفحها وسمحت لنفسي أن آخذ قطعة منها كتب عليها اسم "جعفر بن أبي طالب" لأعلقها في بيتي تيمّنا وتذكارا -قابلا للإعادة- في حال تحركت العاطفة الإسلامية أو النخوة القومية أو الشهامة الوطنية في نفس أي مسؤول حكومي عن هذا الصرح بدءا بسماحة وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية ومرورا بوزير السياحة والآثار ووزير الثقافة وانتهاء برئيس بلدية مؤتة والمزار ورئيس بلدية لكرك الكبرى.
سألت بعض القاطنين في ذلك الموقع فقالوا بأن الصرح كان يضم نصبا بديعا لشهادة التوحيد (لا إله إلا الله .. محمد رسول الله) وأنه تم تخريبه وإزالته ليلا بأيد آثمة مجهولة قبل سنوات عديدة، وليس الإثم يحيق فقط بمن ارتكب جريمة التشويه بحق رموز تاريخنا وشرف أردننا فقد يكون مجرد عابث أخرق، ولكن الجريمة الكبرى هي سكوتنا جميعا وكل من شاهد وعلم بهذا التخريب ولم يحرك ساكنا أو ينبس ببنت شفة والذي يتولى كبر ذلك هو كل صاحب سلطة تتعلق بهذا المكان وذلك الأثر العظيم.
لا أعتقد –بصفتي مهندسا- أن إصلاح هذه الأضرار وإعادة النصب والصرح إلى سابق عهده يكلف أكثر من بضعة آلاف من الدنانير، وأنا شخصيا أعلن لكل مسؤول أنني مستعد للتبرع بها كاملة من مالي الخاص سواء عجزت أو لم تعجز ميزانية وزارة الأوقاف أو بلدية الكرك أو المزار عن تحملها، ولي بذلك شرف الدنيا والآخرة وشرف الوطن والدين والتاريخ خير لي من كل الضيافات والمياومات والمناسف والسفرات والأعطيات التي تنفق لأجلها مئات الألوف.
بقي أن أذكر بأنني عندما شاهدت في صغري ذلك البرنامج الوثائقي في التلفاز الخليجي عن موقع معركة مؤتة أجرى المذيع لقاء مع حارس الموقع وهو رجل مسن أمي –كعادة وزارة الأوقاف في اختيار موظفيها في المواقع الهامة- ورغم ذلك فقد أبدع في وصف أجواء المعركة الخالدة وخصوصا أنه أكد لنا سماعه حتى يومنا هذا لأصوات صهيل الخيول وصليل السيوف ورؤية خيالاتهم، ولكني في زيارتي صبيحة الجمعة لم أشاهد أحدا سوى قليل من الزائرين الغرباء.
وفي ذيل مقالتي هذه أهدي المسؤولين جميعا صورة كسرة الرخام التي جلبتها من الموقع وصورا أخرى لما وصفت من تخريب وتحطيم وإهمال وتجاهل، مقارنا بدولة أوروبية عرفت باهتمامها واعتزازها بآثارها حتى إنها تجري دراسات على تأثير (البكتيريا) على سطوح الرخام والحجارة الأثرية وهي (إيطاليا)، وأقول: هل كان صرح معركة مؤتة ونصب شهدائها سينتظر سنين عديدة وهو ملقى على الأرض حجارة محطمة متناثرة عليها أسماء الصحابة الكرام بين أقدام العابثين (لوكان وزير الأوقاف .. إيطاليا)؟!
المهندس هشام عبدالفتاح الخريسات