بين يدي محاضرته عن مآلات "الربيع العربي" وتأثيرها على الأردن (في مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية، أول من أمس)، ذكر رئيس الوزراء الأسبق د. معروف البخيت أنّه بقي صامتاً، بقرار اختياري، خلال الأشهر الستة الماضية، من دون الإفصاح عن سبب ذلك. وإن كانت إشارته بحدّ ذاتها دلالة على أنّ السبب سياسي، وعلى الأغلب مرتبط بآرائه السياسية، التي قد لا ترضي -في بعض الأحيان- جهات داخلية أو خارجية!
"صمت البخيت" ليس حالة استثنائية أو أمراً مستغرباً، فأغلب النخبة السياسية الأردنية، وتحديداً تلك التي تمتلك الخبرة السياسية والتاريخية وشهدت منعرجات وتحولات خطيرة في العقود الماضية، تفضّل هي الأخرى "الصمت الاختياري" بقرار ذاتي، كي لا يساء فهمها ولا يتم تأويل كلامها.
هل تريدون نماذج وأمثلة أخرى؟
كم رئيس وزراء ما يزال حيّاً حتى هذه اللحظة في الأردن؛ أتذكر 12 واحداً منهم، من بينهم مضر بدران، أحمد عبيدات، عون خصاونة، عبدالكريم الكباريتي، زيد الرفاعي، طاهر المصري، نادر الذهبي، وغيرهم، ويمكن أن نضيف إليهم أسماء لها خبرتها السياسية والاستراتيجية أيضاً، مثل إبراهيم عز الدين ومروان القاسم مازن الساكت... جميعاً صامتون. لماذا؟ للحساسيات؛ لا يريدون إغضاب أحد في الداخل أو الخارج، كي لا يساء فهمهم. وهكذا من تبريرات عديدة غير مقنعة.
غياب خطاب النخب السياسية الخبيرة العريقة، أوجد فراغاً كبيراً في المشهد السياسي، وأنتج غياباً واضحاً لأي حوارات أردنية داخلية موسعة في المجال العام والإعلام حول ما يجري حولنا من تطورات. ومن يراقبنا يحسب أنّ الأردن لا توجد لديه نخب سياسية، وأنّ الدولة قلّما ترى في أوساطها القيادية سياسياً خبيراً محنّكاً، فأغلب النخب تفضّل الابتعاد عن السياسة والحديث السياسي، أو حتى العام، في العلن، وكأنّ ذلك لعنةً يخشون أن تصيبهم!
البخيت نفسه يملك خبرة علمية وعملية استثنائية؛ فهو حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم العسكرية والسياسية، ولواء متقاعد من الجيش، ومستشار سابق في دائرة المخابرات العامة، وعضو في مفاوضات السلام، وسفير في تركيا وإسرائيل، ومدير للأمن الوطني، ورئيس للوزراء في محطتين مهمتين في عهد الملك عبدالله الثاني، الأولى غداة تفجيرات عمان العام 2005، والثانية في ذروة الحراك الشعبي العربي العام 2011.
بالطبع، أعرف ما يدور في عقل كثير من القرّاء من انتقادات للرجل، وفترته في السلطة. وأنا لي كثير من الملحوظات النقدية، وأختلف مع جزء كبير من آرائه. لكن المقصود هو أنّنا اتفقنا أم اختلفنا معه، فمن الضروري أن يتحدث هو وكثيرون غيره من النخب السياسية، ويقدموا لنا رؤاهم المتعددة والمتنوعة، كي نتناقش ونرى على أيّ أرض نقف!
إلى طاولة البخيت نفسها، جلس عدنان أبو عودة، وهو أقلّ المسؤولين السابقين صمتاً على أيّ حال، لأنّه يقول رأيه ويكتب التاريخ ويتحدث بصراحة، لكن لا أحد يهتم لما يقوله في أوساط القرار، بالرغم مما يمتلكه من خبرة سياسية وقاعدة ثقافية وفكرية مذهلة، وكان مقرباً من الملك الحسين، ولعب دوراً بارزاً في أهم محطتين، الأولى وزيراً للإعلام في الحكومة العسكرية في أحداث السبعين، والثانية مستشاراً للملك في حرب الخليج العام 1991، وقبل ذلك هو من مهندسي قرار فك الارتباط بالضفة الغربية العام 1988.
لماذا يصمتون، لا يتحدثون؟ ماذا يخشون؟ مم يتحسسون؟ هل توجد دولة غير الأردن فيها هذا "الصمت المطبق" من قبل النخبة السياسية والاقتصادية، ورجال الدولة الذين صنعوا التاريخ، لكنّهم اليوم يفضلون الصمت، هل هذه ظاهرة صحيّة؟!