بعد سقوط وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ، واحتلال قوات الحلفاء للولايات العربية في الشرق العربي، وإعلان كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية، ووضع دستور وقوانين لسلخ تركيا عن تاريخها وإرثها الإسلامي، وقيادتها للعالم الإسلامي السني خاصة لما يزيد عن أربعة قرون؛ أصيب المسلمون بالصدمة والهلع ، ودبت فيهم روح الهزيمة، وبادر الشريف حسين بن علي لإعلان الخلافة ، ولكن تآمر دول الحلفاء حالت دون تحقيق طموحه.
وكنتيجة طبيعية لذلك الزلزال الضخم ، وكرد فعل شعبي طبيعي برزت حركات عسكرية لمقاومة الحلفاء المحتلين سواء في العراق أو بلاد الشام عموماً، وأستطاع الحلفاء إخماد الثورات والمقاومة المسلحة بالعنف والقتل واستخدام أقسى أنواع التنكيل والأذى. كما وعمد إلى إسقاط الحكومات المشكلة محلياً، بل إنه أفشل مشروع الدولة العربية والذي كان مكتمل الأركان كدولة عربية مستقلة حديثة في بلاد الشام وبقيادة الملك فيصل. وعندئذ صنعت دول الحلفاء حكومات محلية جديدة لإدارة الشأن المحلي ولكن تحت رقابتها وهيمنتها.
ومن سنن الله أن الشعوب المهزومة تعمد إلى المقاومة ورفض المحتل والتبعية له بكل السبل الممكنة؛ ولذا تلجأ إلى المقاومة الفكرية والثقافية، وتجذير روح الأمة واختلافها عن المحتل، والتمسك بثوابتها، ومميزات وجودها، وهكذا لجأت الشعوب العربية المحتلة إلى تشكيل جماعات وأحزاب وجمعيات ومؤسسات مجتمع مدني بعيداً عن المقاومة المسلحة. وكان من ضمن ما تم تأسيسه جماعة الإخوان المسلمين عام 1927م في مصر، وبفكرة من الشهيد حسن البنا ورفاقه ولكنه كان أبرزهم.
نشأت الجماعة في الإسماعيلية ، بلد العمال والفقراء ، ثم ما لبثت أن انتشرت بسرعة كبيرة في القاهرة وفي مختلف مدن وقرى مصر، والتي كانت ترزح تحت الاستعمار البريطاني، وقد انطلقت قوات الحلفاء من مصرلاحتلال الولايات العربية العثمانية ببلاد الشام، وشارك الجيش المصري مع الحلفاء بما يزيد عن مائة ألف مقاتل، وكان عامة الشعب المصري يرفضون ذلك ،ويشعرون بالأسى والحزن والإحباط ، فقلوبهم مع الدولة العثمانية وسيوفهم مع الحلفاء؛ مما دعاهم للالتفاف حول فكرة الإخوان المسلمين والتي تدعو للتمسك بالإسلام عقيدة وتشريعاً وأخلاقاً، وإقامة الخلافة الإسلامية وإعادة إحياءها، ومناهضة الاستعمار والاحتلال الأجنبي، والعمل على نهضة العرب والمسلمين، واعتمد لذلك المنهج والطرح السلمي الدعوي، بعيدا عن الثورات المسلحة، واستخدام قوة السلاح.
وسرعان ما انتشرت جماعة الإخوان في البلدان العربية المحيطة، حيث تلاقت أفكارها ومبادؤها وما تدعو وتطمح إليه مع أفكار العديد من الجماعات والجمعيات المحلية الأخرى، سواء في العراق أوسوريا أوفلسطين، فتم الاتحاد في جماعة الإخوان المسلمين ، وقد تواصل الشيخ حسن البنا مع كافة المؤسسات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية، واستفاد من الطلبة المبتعثين للدراسة في الأزهر الشريف، وأرسل الدعاة لفكرة الإخوان للدول أيضاً، ومن بينها الأردن.
نشأت جماعة الإخوان في الأردن منذ سنة 1946م ، ولاقت ترحيبا واحتراماً رسمياً وشعبياً، وقابلت ذلك الموقف بدعم مؤسسات الدولة المختلفة، والانحياز للدولة ونظامها السياسي في المواقف الصعبة وجابهت الرياح العاتية ، وسمحت أجهزة الدولة للإخوان بحرية العمل والدعوة في فترة منع الأحزاب، ودون تضييق يذكر.
مع بداية الثمانينات وبروز الانتفاضة الشعبية في سوريا بدأ نوع من تقليل مساحات الحركة للجماعة، انتهت مع انتهاء الأحكام العرفية وعودة الحياة السياسية، وفي هذه الاْثناء قررت الجماعة إنشاء حزب سياسي يعبرعن مواقفها السياسية ويخوض المنافسة الانتخابية، تحت مسمى جبهة العمل الإسلامي، وكان الطموح أن يكون الحزب جامعاً لكل الطيف الإسلامي بل الوطني، ولكن ظهر الحزب وكأنه أحد مؤسسات الجماعة، وقيادته وقرارته تتخذ في المكتب التنفيذي للإخوان، ولا يوجد له استقلالية الاختيار أو القرار؛ مما حدا بالعديد أو معظم المستقلين وسواء كانوا مؤسسين أو أعضاء للخروج والمغادرة.
ولأن من سنة الله التغيير، فقد ظهرت قيادات جديدة ، وبدأت القيادات الشابة تتسلم مقاليد الأمور تدريجياً، وهذه القيادات في أغلبها من الذين انضموا للجماعة منذ بداية السبعينات وإلى الثمانينات، ولديهم طموح ، وتربوا على فكر سيد قطب والمودودي وعبدالله عزام ..ألخ ، وقد بدا بينهم نوع من الاختلاف ويرجع سببه الرئيس للاجتهاد الحركي وخاصة في المشاركة بالانتخابات النيابية، ويرجع كذلك للطموح والخلاف الشخصي بين القيادات _ فالإخوان بشر _ ، بالإضافة لاستلام بعض مفاصل قيادة الأخوان مجموعة مغامرة قامت بعمليات فصل تعسفية بحق شخصيات إخوانية لها تاريخها الدعوي، وبعدها العشائري، لأبسط القضايا وعند مخالفتهم بالرأي، ومع أن الأولى حفظ السابقة لهؤلاء، واتخاذ قرارات دون ذلك، وكانت قراراتهم اشبه ما تكون بقرارات الأحزاب القومية في سوريا والعراق.
وقد تمخض عن ذلك ومنذ التسعينات ظهور وانشقاق حزب الوسط الإسلامي ، ثم زمزم وجمعية الإخوان المسلمين ، وأخيراً حزب الشراكة والإنقاذ ، وجميعها تنطلق فكرياً من نفس المبادئ والأهداف والأفكار، ولكن الخلاف كما ذكرت اجتهادي وشخصي. ولقد كان الفصل من نصيب كل من ينضم إلى الوسط الإسلامي وزمزم وجمعية الإخوان، وما زال القرار بالنسبة للشراكة والإنقاذ لا نعلم به.
وفي ظل الظروف الراهنة للأردن ، وللحركة الإسلامية والتي أغلقت مقراتها، وتم رفع اسمها، ووصفها بغير القانونية _ مع السكوت عن هذا الوضع الحالي وغض الطرف من أجهزة الدولة _ وللمحافظة على الصف الإخواني من الانشقاق العرضي والطولي ، ولعدم شرذمة الإخوان وتلافي حالة الضعف، ودخول الأفراد والقيادات _ التنظيمية والفكرية _ في مناكفات هم في غنى عنها، ولمعالجة حالة ضعف الإقبال للانضمام سواء للحزب أو الجماعة من الأجيال الشابة، ولمواجهة التيار العلماني الصاعد ، ينصح أن يكون للجماعة أكثر من ذراع سياسي، ولكل ذراع قيادته ومؤسساته المختلفة ونطاق عمله وبرنامجه، وتلتقي جميعاً في توجه عام، ولا يشترط في من ينتمي لتلك الأحزاب أن يكون عضواً في جماعة الإخوان المسلمين.
ولعل في قصر دور الجماعة على التربية والتنشأة فيه محاكاة لتجارب جماعة الإخوان في البلدان الأخرى، والتي حققت فائدة للجماعة والحزب . ويمكن أن تكون تلك الأحزاب منافذ وبوابات وروافد للانضمام للجماعة الأم، والحقيقة أن دور الأحزاب يكاد أن يكون أشبه بالجمعيات والنقابات المهنية، ثم منح فرصة ومساحة للقائمين على الشراكة والإنقاذ، وليكن الواقع والمجتمع من يحكم على نجاحهم أو فشلهم، ويمكن لكل هذه الأحزاب وغيرهم عقد تحالفات في قضايا مخصوصة، ولعل وجود أكثر من حزب سياسي للجماعة يفسح المجال لبروز وتنمية وإشهار قيادات سياسية ومجتمعية جديدة، ..ألخ ، وعندئذ لن تعجز كفاءات وطاقات الإخوان الإدارية عن إبداع ضوابط هيكلية لهذه العلاقة، ولعل وجود أكثر من حزب سياسي إسلامي فيه احتياط للمناكفات السياسية، فلولا وجود ترخيص لحزب جبهة العمل الإسلامي لكانت مساحة المناورة للجماعة ضيقة جداً عند إغلاق مقراتها.
ومن باب الحرص على كيان الجماعة فإنني أدعو أن تكون جماعة واحدة وأذرع سياسية متعددة، ولا يظن أحد أنني مؤيد لفئة على أخرى، بل لاعتقادي أن الأمور لن ترجع كما كانت. والله من وراء القصد.
Sulaiman59@hotmail.com