على غرار مقالات سابقة كان بودي أن أعنون مقالتي هذه بعنوان: (لو كان وزير الداخلية .. فرنسيا !) ولكن أصدقكم القول بأن جرأتي لم تصل إلى درجة من التهور بحيث تضعني في قفص الاتهام عشائريا واجتماعيا ودينيا قبل قيودنا المكبلة أمنيا وسياسيا، لذا فقد اكتفيت أن أتمنى وأقول: (لو كنا نعيش في باريس!).
نعم .. ترى لو كنا نعيش في باريس.. هل كان الدكتور فخري دعاس الناشط اليساري المناكف سينفذ اعتصامه لمقاطعة الانتخابات النيابية هو وتسعة عشر من رفاقه في مركز أمن الشميساني بدلا من ساحة رئاسة الوزراء في الدوار الرابع؟! وهل كان المهندس غيث القضاة رئيس اللجنة المركزية للقطاع الشبابي في جبهة العمل الإسلامي سيكتفي فقط للدعوة إلى المقاطعة بنفخ بضعة بالونات على حياء في الحديقة الداخلية لمقر الحزب في العبدلي؟!
ترى لو كنا نعيش في باريس.. هل كانت إضرابات عمال الموانئ ستلقى مصيرها في غرف العناية الحثيثة في المستشفيات، وإضرابات عمال المياومة في وزارة الزراعة ستنتهي إلى قضايا مرفوعة ضد قياداتها في محكمة أمن الدولة؟!
ترى لو كنا نعيش في باريس.. هل كان خبر اعتقال خمسة وثلاثين طالبا جامعيا دفعة واحدة والتحقيق معهم بقسوة لمدة أربع وعشرين ساعة متواصلة يحظى بتغطية جميع وكالات الأنباء العالمية وعلى رأسها البي بي سي وتعمد بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية الأردنية التي تصف نفسها بأنها الأوسع انتشارا وأنها ......................إلى التعتيم تماما على الحدث ولا تنبس ببنت شفة إلا عندما يأتيها مطبوعا بيان الناطق الأمني الرسمي؟! ليلتها تذكرت وأنا أنظر إلى شاشة البي بي سي مقالة "غوار الطوشي": (افتح على لندن .. حتى نعرف شو في عنا هون!).
ترى لو كنا نعيش في باريس.. هل كان مئات الألوف من الأردنيين المتضررين من تعديلات قانون الضمان الاجتماعي العرفية الجائرة التي كافأت الذين أساؤوا التصرف –ولا أريد استخدام عبارات أحاكم عليها- فتراجعت استثمارات أموال الضمان وخرجوا برواتبهم الخيالية التي جاوزت العشرين ألفا وجئنا نحن لندفع ثمن ما لم تقترفه أيدينا من قوت أطفالنا ومستقبل أبنائنا وعجز شيخوختنا ،،، هل كان كان مئات الألوف هؤلاء لا يجرؤون على تنظيم مظاهرة واحدة ولا إضراب ولا اعتصام ولا تجمع –عليه العين- لا هم ولا أحزابهم ولا نقاباتهم؟!
أرى كل يوم هذه المسيرات المليونية في باريس حاضرة الثورة الفرنسية وهي تحتج وتعتصم وتضرب عن العمل وترفض رفع سن التقاعد، وأرى فيها الشباب والصبايا قبل المسنين والمقبلين على التقاعد، إنها أمة حية تتحرك لمصالحها وترفض الظلم الطبقي والقوانين الجائرة، لم يصفهم وزير الداخلية الفرنسي بأنهم رعاع أو خارجون على القانون أو معطلون لعجلة الاقتصاد، ولم يصفهم الإعلام الفرنسي من إذاعة وتلفاز وصحف يومية ومواقع إلكترونية وأقلام صحفية بأنهم مخالفون للدستور ويشوهون صورة بلدهم، ولم تجرب فيهم قوات الدرك الفرنسية مهاراتها القمعية المتطورة!
حتى في أحزاب المعارضة لدينا، ونقاباتنا المهنية "المعارضة أيضا".. لا نتقبل المعارضة الداخلية ولا الرأي الآخر وننظر إليه بعين التخوين والترجيف، ويطلب للنقابي والمهني إذا زيدت رسوم نقابته 50% -في هذه الظروف الاقتصادية الخانقة- أن يصفق مهللا ومرحبا ومبررا وموافقا ومهاجما الرافضين بأنهم أصحاب أجندات وأبواق لجهات حاسدة متربصة.
ترى لو كنا نعيش في باريس.. هل كنا سنرفل بثياب النعيم بحرياتها الوارفة؟ أم كنا سنعتصم مطالبين بالحد من حرية لم تعتد جلودنا عليها بعد؟!
المهندس هشام عبدالفتاح الخريسات