قبل سنوات طويلة، حدثني صديقي الأكاديمي المرحوم الدكتور غازي الصوا، عن قصة حدثت له وهو يدرس في جامعة واشنطن ستيت في الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجة الدكتوراه في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وقتها ـ حسب رواية المرحوم ـ وحسبما هو معمول به في الجامعات الأمريكية، كان بوصفه من الطلبة المجتهدين يقوم بتدريس بعض المساقات كجزء من متطلبات استحقاق المنحة التي يتلقاها من الجامعة. وفي أحد الفصول الدراسية، تصادف أن تعرف بنجلين للرئيس الفلسطيني الحالي ـ المنتهية ولايته ـ حيث كانا يهمان بالدراسة في الجامعة نفسها، ليسارعا إلى تسجيل أحد المساقات العامة عنده، وليتبين لاحقاً ـ حسب رواية المرحوم ـ أنهما يريدان الحصول على علامات مرتفعة في المساق دون أن يبذلا الجهد المطلوب لذلك، ودون أن يلتزما بحضور الصفوف، مفترضين فيما يبدو، أن الأصول الفلسطينية للدكتور تبرر لهما إحراز ذلك. وفق الرواية نفسها، انتهت الأمور بين الدكتور والطالبين إلى نزاع شديد اللهجة، لم يخل ـ كما أخبرني رحمه الله ـ من تفعيل أساليب التهديد والوعيد والضغط والابتزاز، ولعله أشار ـ إذا لم تخني ذاكرتي ـ أن الأمور وصلت بتأزمها إلى مراكز الشرطة وإدارة الجامعة.
حتى أكون منصفاً فإنني لا أستطيع الجزم بصحة تلك القصة التي تعود روايتها إلى أكثر من عشرة أعوام، وإن كنت لم أعهد الكذب في صديقي المرحوم، الذي انقصف أجله بالمناسبة بنوبة قلبية قبل أن يكمل الخمسين من عمره، ربما نتيجة ما لقيه من ظلم وقهر واضطهاد في الجامعة الأردنية على يد الزملاء والإداريين الطيبين. على أية حال، مرت تلك القصة التي كنت قد نسيتها في ذاكرتي وأنا أقرأ خبراً عن عزم اثنين من أنجال الرئيس عباس ـ المنتهية ولايته ـ على مقاضاة قناة الجزيرة ومذيعها الشهير فيصل القاسم صاحب برنامج الاتجاه المعاكس، وضيف إحدى حلقاته الصحفي ياسر الزعاترة، وذلك على خلفية اتهامهم بذم وتحقير الرئيس عباس ـ المنتهية ولايته ـ هو وبعض أنجاله.
لا أخفيكم القول إن رؤية الكثيرين من أبناء \"كبار الثوار\" الفلسطينيين اليوم تبعث على الشعور بمنتهى الأسى والقهر وخيبة الأمل؛ إذ تظنهم قادمين للتو من نيويورك أو لندن أو باريس، فهم يرتدون أفخم البزات، وهيآتهم وسيماهم تحاكي أحدث ما يشهده العالم المرفه من موضات، كما أنهم لا يكادون يتكلمون العربية إلا من باب التندر، هذا إذا كانوا يتقنونها فعلاً، نظراً لنشأة كثير منهم في أرقى مدائن الغرب لضرورات أملتها متطلبات نضال إبوتهم، وتكاد كلماتهم المترفعة تنحصر ضمن حدود الحديث عن أعمالهم وشراكاتهم وصفقاتهم المهولة حول العالم، التي لا أحد إلا الله، وربما \"كبار الثوار\"، يعلم من أين جاءوا برؤوس أموالها.
قد يمكن لقناة الجزيرة ببساطة أن تدفع عن نفسها وعن مذيعها الشهير الحصة التي ستترتب عليهما من مبلغ المليون دولار ونصف فيما إذا خسرت القضية المرفوعة ضدهما، ولكن هل ستدفع أيضاً الحصة التي ستترتب على الصحفي الفقير إلى الله ياسر الزعاترة، التي لن تقل عن نصف مليون دولار فيما يظهر، ذلك المسكين الذي تتمثل \"جريمته\" في نقل ما يرد على ألسنة ملايين الناس من مقولات واتهامات حول الدور الذي لعبه الرئيس عباس ـ المنتهية ولايته ـ فيما يتعلق بتقرير غولدستون العتيد.
اقترح منذ الآن إنشاء ما يمكن تسميته صندوق القرش الخيري لدعم ياسر الزعاترة، وأظن أن الصندوق سيتمكن من جمع ملايين الدولارات، وليس مجرد مليون دولار ونصف، فأنا أعرف أن الملايين من أبناء أمتنا يؤمنون بأن الرئيس عباس ـ المنتهية ولايته ـ قد تكرم وتدخل لتأجيل مناقشة التقرير المذكور الذي يفضح جرائم قوات الاحتلال الصهيوني في غزة، طبعاً من باب الحرص على مصلحة الشعب الفلسطيني وضمان حقوقه الوطنية المشروعة في تجرع الموت الصامت دون أن ينبس أحد ببنت شفة.
أتعرفون، قد يكون إنشاء مثل ذلك الصندوق وتعميم فكرته ضرورة ملحة وجدية، ليس فقط من أجل ياسر الزعاترة، بل من أجل كل كاتب وصحفي سيتم جرجرته عاجلاً أم آجلاً في هذا القطر العربي أو ذاك إلى أروقة القضاء، بتهم لا حصر لها ولا أول لها ولا آخر، وبخاصة بعد أن بدأت الحكومات الرشيدة في أكثر من بلد عربي تبتكر أساليب جديدة مبدعة لضمان تقصير ألسنة الصحفيين والكتاب، كما حدث في الأردن مثلاً مؤخراً، عندما تم إصدار قرار قضائي يقضي بإخضاع الصحف الإلكترونية لقانون المطبوعات والنشر البديع.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com