قرأت معكم مقالات المهندس هشام خريسات المعنونة ب " لو كنا نعيش في باريس " و " لو كان وزير الأوقاف إيطاليا " و " لو كان وزير السياحة إسبانيا " ، وتفكرت في العلة التي بين أيدينا أهي بالمكان أم بالناس ؟ رغم وضوح مقصد الكاتب عندما كنّى بالمكان عن الأنظمة والتشريعات والحريات والحقوق ، واستحضرتني مقولة المفكر الجزائري الشهير ( مالك بن نبي ) : " أن التاريخ يخضع لقانون النفوس " فإن رونق البناء الخارجي يبقى ضحلا فارغا إذا ما انعزل عن كينونة التغيير المستمرة داخل النفوس ، وتبقى الأدوات المطوّرة والوسائل الحديثة مجرد نتاج حيوي للإبداعات الفكرية البشرية فالتغيير يحتاج لإرادة منبعها خارج نطاق تأشيرات باريس أو إسبانيا وليست ضمن حدود أوروبية أو أمريكية أو ما يُسمى " بالعالم الأول " إنما بالثورة النوعية للمحتوى الداخلي لأفئدة الشعوب فالحرّ يبقى حرا طليقا وإن قُيّد في غياهب الأسر والسجون لأن الحرية مزروعة في صميم روحه والعبد سيبقى عبدا ولو كانت السماء سقفه ورحاب الأرض جميعها داره فمن طاب لنفسه الاستقرار بين قيعان الاستعباد وجد الحرية سجنا ، ونحن كشعوب عربية وإسلامية لا ينقصنا من تميز الأفكار وتطويرها شيء لكن تبقى ملكة التفكير منقوصة دون تكميلها بإرادة عازمة وقوية على صنع فارق وتحويل واقع على مستوى فردي و جماعي ، فلو نقلنا فئة من النفسيات المنهزمة والمستسلمة لثقافة الدنوية تجاه الآخر والمتقبلة لفوقية الآخر للعيش في إحدى ضواحي باريس هل نتوقع عندما نعود إليهم بعد أربعين يوما باعتبار " من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم " أن نجدهم أصبحوا فئة طموحة مبدعة تؤمن بثقافة الانتصار متحررة من عُقد النقص ليس بالضرورة فكم من عالم ورجل أعمال عاش سنوات في " العالم الأول " وعاد بذات الأفكار التي رحل بها إلا من رحم ربي و وازن بين الثقافتين واهتدى بنور وسطية الإسلام ، فإن الحضارات ما هي إلا انعكاس لشخصيات الأمم والهم الأكبر يقع فيها على القادة والمربين فالطاقات المبدعة متوافرة والرغبات المتعطشة للتغيير مشرقة ويتبقى توليد الإرادة الفاعلة التي باستطاعتها نقل العزيمة الميتة في النفوس إلى الحياة من جديد مصداقا للقاعدة القرآنية الصلبة " إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ " فسنة التغيير في الأرض لا تنبع إلا من داخل النفوس التي جعلت من قوم جاهلية يعبدون الأصنام ويأتون الفواحش ويأكلون الميتة إلى قوم موحدين يأمرون بالمعروف ويرحمون الناس ويشقون الأرض عدلا ونورا فقد كنّا عالما أولا قبل تقسيم العوالم لكن صدق فينا قول ربنا عزّ وعلا : " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ " ، فاتفق مع المهندس هشام خريسات إن أحسنّا صناعة أنفسنا ستجد خلال بضع سنوات كاتب فرنسي ينتقد واقعه المرير بمقالة عنوانها " لو كنّا نعيش في عمّان " .
فدوى إبراهيم