ينفض "المواطن" العربي يديه من السياسة. وهو يوقّع، اليوم، بعد مرور أكثر من قرن، على مقالة الإمام محمد عبده "لعن الله السياسة..". فيما يحاول كثيرون أن يجدوا لأنفسهم "مكاناً تحت الشمس"، خارج أسوار مدينة السياسة المحصّنة المنيعة!
الهروب من السياسة والعزلة الشعبية عنها ليست خياراً، ولا ترفاً، بل هي استحقاق الشعور بالكلفة العالية والكبيرة التي يمكن أن يدفعها الإنسان إن هو أراد أن يمارس، فعلاً، "مواطنته الموءودة"، وأن يشعر بأنه "إنسان" كباقي خلق الله.
الجدال في "بلاد العرب أوطاني" لا يمت بصلة إلى الجدالات السياسية في أوروبا وأميركا واليابان وحتى ماليزيا، وربما بلاد أخرى كانت وراء ظهورنا قبل عقود. فنحن ما نزال نتناطح في "الحقوق الأساسية": هل هي ضرورية أم لا؟
نخبة من الشباب العربي زاروا، قبل أشهر قليلة، الدانمارك للاطلاع على تجربة الانتخابات النيابية هناك، عادوا يضحكون (!) من مقدار السذاجة السياسية، إذ يجري الحديث عن عدد الدرّاجات الهوائية المسموح بها في الشوارع، وعن حقوق المشاة، بينما شوارعنا العربية تفيض عند أول نقطة ماء، وتتلف البنية التحتية، ولا نناقش ذلك بجِدّية.
الهروب من "المدينة المحصّنة" لا يقتصر فقط على الشارع، بل حتى النخب المثقفة والأكاديمية، التي تمتلك قدراً من العقلانية والوعي والواقعية، تؤثر السلامة الفردية، ولا تشطح بأحلامها بأن تجد نفسها في دولة يمارس المواطنون فيها حقوقهم كاملة، من دون جمل معترضة، والحكومة في خدمتهم، ودولة القانون والمؤسسات بدهية لا تحتاج إلى نقاش وسجال!
في ندوة سابقة حول الواقع العربي، ردّ بعض الحضور على مداخلتي، بالقول "كفى جلداً للذات". سألت مستغرباً: إذا وصلنا إلى هذه المرحلة ولم نجلد ذاتنا، فعلى هذه الشعوب والمجتمعات السلام!
عودٌ على بدء!
هل ثمة حياة، ولو بالحدّ الأدنى، خارج مدينة السياسة المحصّنة؟ أخشى أنّ الجواب: لا. السياسة في عالمنا العربي تلتهم كل شيء، وتفرض سطوتها على البشر والأموال. ومهما حاول أيٌّ منّا أن ينأى بنفسه، فلن يشعر بالأمان، وأيّا كانت محاولاتنا في شق طريق أخرى للحياة سنصطدم، في نهاية اليوم، بجدران المدينة الإسمنتية.
لا بديل عن الإعلان جهاراً نهاراً عن قضية الناس جميعاً في العالم العربي وهي المواطنة الحقيقية، التي تعكس الاعتراف بإنسانية الإنسان.
الإصلاح ليس قضية شخص أو مجموعة، ولا ميداناً للمناكفات السياسية ولا الخلافات الأيديولوجية، بل هو شرط أساسي للحياة الإنسانية الطبيعية المهدرة اليوم في المشهد العربي، لو تأمّلناه، بصدق، قليلاً!
"مواطنة كاملة"، لا تقبل القسمة أو الطرح، هو العنوان الوحيد المشروع اليوم للدفاع عن أنفسنا وأوطاننا ومجتمعاتنا وكرامتنا ومستقبلنا.