مقاعد الزُلُم بالرفع أو بالكسر لا يهم هي عبارة تشير إلى مجالس الرجال التي كانت تتشكل بالمضافات أو الديوانيات أو حتى الدكاكين أيام زمان: وهي مجالس كانت تضم بين جنباتها رجالاً عركتهم الحياة فأخرجت منهم خبرات ندر أن تجدها في الكتب. فالكتب صنفان: كتب علمية تأخذنا بين الأرقام أو المعادلات الكيمائية أو الفيزيائية, أو كتب أدبية تدغدغ عواطفنا ببيت من الشِعر أو تسرد لنا تاريخا مختلفا عليه. أما مجالس الرجال(وخاصة كبارنا الختياريّة) فهي كالمختبر ترى فيها المعطيات والتجربة والنتيجة والتطبيق العملي لهذه النتيجة؛ هي مختبر متكامل بالفعل.
ما دفعني لكتابة هذا المقال اليوم هو ما دار من جدل وتعليقات حول حادثة المعزب الذي طرد ضيفه لتطاوله على رأس الذبيحة. وكان من التعليقات من لام المعزب على فعلته. ولكن العالم بتقاليد المنسف وأصوله يدرك أن طرد الضيف هي أقل ما يمكن فعله عندما يتطاول هذا الضيف على رأس الذبيحة وخاصة إذا كانت الدعوة عامة يحضرها ممثلين عن العشائر الأخرى لأن في هذا إهانة لا تُغتفر للمعزب, فلو كان الضيف معتادا على مجالس الزلم لما لجأ إلى مثل هذا التصرف. ولن أكرر الحديث عن المنسف, فقد تناولت هذا الموضوع بمقال مستقل بعنوان (المنسف وطقوسه الاجتماعية ونُشر في عمون), ولكن للتذكير فقط فإن المنسف ليس كمية من الرز فوقها كمية من اللحم والسلام ختام, إنه أحد مجالس الزلم التي نتحدث عنها وله احترامه وأصوله, ويمكن الرجوع إلى المقال المذكور للمزيد في هذا المجال.
لا يحتاج أبناء الكرك الكرام (زلام الهيّة) إلى من يذكرهم بالضيف وحقوقه ولكن وباعتقادي أن ضيف الكركي أراد توجيه رسالة للمعزب, فكان الرد فوريا وحاسما. و لا ننسى أننا بموسم انتخابات حيث تكثر التكتلات والاجتماعات و( المجالقات). لذلك قبل أن نحكم على المعزب وعلى تصرفه من الأولى أن نرى الموضع من جميع جوانبه.
ومن طريف ما يُذكر عن قلة الخبرة بمجالس الزلم قصة سمعت بها حديثا عن مسئول زاره بعض الشيوخ لقضاء حاجة لمنطقتهم, فطلب هذا من سكرتيره أن (يقهوي) الضيوف. وقد لاحظ سعادته أن من الشيوخ من وضع يده على الفنجان فقال لسكرتيره الظاهر أن الشيوخ ما (بحبو) القهوة روح جيب الهم عصير. غني عن التعريف طبعا أن وضع اليد على الفنجان هي كهزه تماما تعني الاكتفاء وعدم الرغبة بفنجان آخر.
لهذا وجب علينا نحن أن نعوّد أبناءنا على مجالس الرجال ليتعلموا من كتب الحياة ما لم يتعلموه من الكتب المدرسية أو الجامعية, وإذا لم تتوفر هذه المجالس فلنحرص على إيجادها في بيوتنا كلما سنحت الفرصة, فليس من المعقول أن تدخل مع ابنك مجلسا فيه زُلُم هم شيوخ زمانهم ويصدر عنه تصرف ينم عن قلة خبرة بالحياة عندما تقدم له القهوة أو يصف مع الرجال على منسف.
نحن في هذه المنطقة من العالم لنا تقاليدنا وعاداتنا التي نفخر بها كباقي مناطق العالم فلا تخلو منطقة من عادات لها جذور بتاريخ ذلك البلد ويحرص عليها أبناؤها, فعيد الشكر في أمريكا وان كان ذا صبغة دينية هذه الأيام إنما بدأ فعلا كموروث اجتماعي يقوم أصحاب الأرض في ذلك اليوم على خدمة فلاحيهم الذين يعملون بأرضهم ويقدمون لهم الأكل بأنفسهم, ويحرص فيه الناس على أن يكون الديك الرومي على رأس هذه الوليمة, وتطور الأمر بعد ذلك ليصبح احتفالا دينياُ.
نسمع عبارات كثيرة كلما تحدث أحدنا بهذا الموضوع مثل ( يا أخي الناس وصلت القمر ونحن لا زلنا برأس الذبيحة أو فنجان القهوة باليمين أو الشمال) ولهؤلاء القوم أقول عندما يصبح هذا الحديث معيقا لأي اختراع سنتنازل عنه لصالح الاختراعات, ولكن بما أننا لغاية هذه اللحظة لم نستطع اختراع الطائرة وما زلنا نستورد نكاشة البابور من الصين فلنحافظ على هذا الموروث إلى أن تأتي الاختراعات.
لنحرص على تاريخنا وعاداتنا ونطور أنفسنا علمياً وصناعياً فالأمران غير متعارضين.
ودمتم
alkhatatbeh@hotmail.com
alkhatatbah.maktoobblog.com