عام مثل كل الأعوام يرحل ، يمضي ويقضي ، نشيعه في جنازة مهيبة يشارك فيها ملايين العرب ، لنستقبل عاما آخر جديد ، قد لا يختلف عن ما سبق من أعوام ، نحاول أن نزهوا به ونرغمه أن يزهو بنا ، نكتب له القصيدة ونغني له ونحكي له الحكايات ، نزرع على جنباته الورد وننثر في هوائه العِطر وترفرف له الرايات ، نرفع الأكف إلى السماء داعين متمنين متضرعين ، علّه يكون عاما خالٍ من الأوجاع والآهات ، ولكن هيهات هيهات .
تمضي الأيام عاما بعد عام ، ونعدّ تلك الأيام مع تقلبات الليل والنهار ، ومع شروق الشمس وغروبها ، وتحولات الفصول الأربعة ، وإن كانت تلك الفصول قد اقتصرت في منطقتنا على فصل واحد لا غير ، ألا وهو فصل صيف يتسم بحرارته وعنفه وجبروته ، يشِبّ فيه الأطفال ويشيخ الشباب ويفنى الشيوخ ، وما زال لا فرق في أعوامنا بين الألفية الأولى والثانية ، فكلها مجرد أرقام تتغير ولا نتغير .
في كل عام نجدد الآمال والطموحات ، وننتظر بفارغ الصبر ، أياما جديدة قادمة محمولة على أكف عام جديد ، تكون أكثر إشراقا وبهجة وأكثر استقرارا ، فقط ننتظر القادم المجهول من السماء ، نردد مفردات الأمل والتفاؤل والتمني تارة ، وأيضا مفردات التشاؤم التي تلازمنا منذ ولادتنا تارة أخرى ، دون أن نحرك ساكنا لنصنع من العام مجدا لنا وعزا وفخار ، نرغمه أن يكون غير كل الأعوام ، عاما نعيد فيه كتابة التاريخ ورسم الجغرافيا العربية ، وما أن يحل آخر يوم من العام ، حتى نكتشف أن شيئا فيه لم يتغير ، وأن الآمال لم تتحقق ، والطموحات ما زالت تراوح مكانها وستبقى ، وانه مجرد عام مثل كل ما سبق من أعوام .
اختلالات تفاقمت وتحديات جسام برزت ، واستمرار التباطؤ في كل مجالات الحياة يحيط بنا من كل جانب ، فلا أنظمة قادرة على حماية أوطانها وشعوبها ، ولا حكومات تعمل من اجل إنسانية مواطنيها وتوفير أدنى مقومات عيش كريم لهم ، ولا شعوبا قادرة على العيش بأمن وسلام في أوطانها ، ولا هي قادرة حتى أن تعمل على تفعيل العقل القابع في الرؤوس بلا فائدة مرجوة ، ولا سياسة تحفظ لنا سيادتنا العربية ، ولا اقتصادا يؤمن حياة الأجيال القادمة ، وحتى موتنا قد جعلوه موتا مهينا ذليلا وبلا كرامة ، نموت حرقا وقصفا وقتلا وتعذيبا وغدرا ، نموت فقط لأنهم يريدون لنا أن نموت ، حتى أصبحت حياة الإنسان العربي حكاية قصيرة ، كلها ضرّاء لا سرّاء فيها ، انه فقط يولد ثم يموت ، وما زلنا نعيش خيبة تلو خيبة وانتكاسة وراء انتكاسة ، ولا نتعلم من مرارة وأوجاع أعوام وأعوام قد مرّت وانقضت .
ننشد عاما يُطل علينا برأسه خالٍ من دموع الأطفال ونحيب النساء وقهر الرجال ، ويكون فيه التفاؤل زادنا وديدننا ، ننشد عاما نفرض فيه هيبتنا العربية بكل اقتدار ، أو عاما لا يغزونا فيه مستعمر على اقل تقدير ، عاما يخلو من المفاجآت الدرامية الدموية اليومية ، ولا يكون فيه العرب محزونين مهمومين مذمومين مدحورين ، ولا ينهش القلق والخوف قلوبهم وأرواحهم ، ولا تملأ الهموم عقولهم وتحدّ من تفكيرهم ، ننشد عاما لا يكون فيه ضنك العيش ومرارة الوجع واللهاث وراء لقمة الخبز أولى أولوياتنا وفقط ، ننشد عاما نشعر فيه بقيمتنا وآدميتنا وإنسانيتنا وهيبتنا وكرامتنا ، عاما نشيّد فيه صرحا عملاقا نسميه البيت العربي الجامع ، نحج إليه ونعتكف فيه ونطوف حوله ، تاركين الحج إلى البيتين الأبيض والأحمر ، ننشد عاما لا نكون فيه قوم تُبّع ، ولا علاقة لنا بحرب باردة أو ساخنة ، ننشد عاما نزرع فيه شجرة إن تساقطت أوراقها في الخريف نمت وتجددت في الربيع ، عاما نفاخر فيه الدنيا بإسلامنا وعروبتنا ونرتقي فيه بوعينا لنوقف هذا العبث الدامي بِ إنسانيتنا وأوطاننا ، ننشد عاما ننتزع فيه أفراحنا من بين الآلام والجراح ، ونحقق انتصاراتنا من أعماق قلوب أعدائنا ، وبقدر ما ننجز في الحياة تكون الحياة جميلة رائعة ، وغير ذلك فإننا بانتظار أن يصدروا لنا شهادة وفاتنا ، ويحق لكل عربي أن يردد المقولة المشهورة لذاك المواطن التونسي ، حين قال إبان ثورتهم ( هرمنا ) ، وسلام على العرب يوم ولدوا ويوم يموتوا ويوم يبعثوا ...