نشوء وبروز الدول وتوسعها لها دلالات ، وانقباضها وزوالها لها دلالات ، وإسرائيل المعتدية الباغية لا تشذ عن هذه القاعدة ، فعندما قامت دولة إسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية تحت حجة منطق القوة الذي لا يستند على أي أسس قانونية أو شرعية ، تهيأت لقيامها الأسباب الموضوعية ، والتي منها ضياع وتشتت واضمحلال الفكر السياسي والشخصية الوطنية العربية عامة الفلسطينية بشكل خاص في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، والقوة والنفوذ الكبير للزاحف اليهودي نحو فلسطين وللمستعمر البريطاني على الأرض ، قابلها التقوقع الفلسطيني وعدمية أو غياب نفوذ القيادات والقوى الوطنية سواء العشائرية منها أو الحزبية ، والجهل الثقافي والعدم التعليمي والضعف الاقتصادي الفلسطيني ، مقابل القوة الاقتصادية والتميز الثقافي والتعليمي والسياسي اليهودي والصهيوني .
كما وخدم إسرائيل بقيامها وتمددها الاستيطاني وتوسعها الاستعماري حبل الناس المتين الذي أمدها بأسباب القوة ، بدءً من الاستعمار والوجود البريطاني الذي بذل كل ما في وسعه لتمكين اليهود من التسلل إلى فلسطين ومن ثم قيام دولة إسرائيل ، حتى حرب السويس 1956م بداية الاحتضان الفرنسي للمشروع الصهيوني ، الذي كان سببا مهما لتمكين إسرائيل من الانتصار الكبير على العرب في حرب 1967م ، وسببا رئيسيا بسقوط القدس وكل فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني .
وبقي حبل الناس يشتد ويقوى خدمة لإسرائيل وأجندتها الاستعمارية التصفوية ضد القضية الفلسطينية ، وذلك بدخول أمريكيا عسكريا واقتصاديا على خطه ، وإن كان التدخل والدعم الأمريكي لإسرائيل موجودا بأوجه كثيرة مع بدايات الأطماع اليهودية والصهيونية بفلسطين ، وازداد وتوضح مع بداية النفوذ الأمريكي في المنطقة مع أوائل سبعينات القرن الماضي ، والذي كان سببا مهما بتبديل النصر العربي في حرب رمضان المجيدة خريف العام 1973م الذي كان من الممكن تحقيقه ، إلى شبه هزيمة محققة ومؤكدة بفعل الأسلحة والتداخلات والتهديدات الأمريكية .
وقد رافق حبل الناس القوي لدعم دولة إسرائيل ماكنة إعلامية صهيونية عملاقة بدلت الحقائق ، ونجحت إلى حد كبير بتغيير الكثير من المفاهيم العالمية حول القضية الفلسطينية لصالح الغزو الثقافي والاستيطاني اليهودي ، كما ورافقها ماكنة إعلامية عميلة حاولت دائما التقليل من شأن الانطلاقة والانتفاضة والقيادة الفلسطينية ، حتى وصل ببعضها القومجي والمتأسلم لمحاولة تفشيل المسيرة الفلسطينية ، بمحاولة الإصرار على الفصل بين القيادة الفلسطينية وشعبها ومحاولة ضرب شرعيتها .
كما ورافقه بعض النشوء الفلسطيني الزائف المرتبط بالتربية الوطنية المنحرفة التي نشأ عنها ثقافة وطريق العيب التي ضلت الطريق وأضلت ، وكادت أن توصل بالقضية إلى حافة الردى بعد أن جعلت الهبات والعطايا أغلى أمانيها ، والأخذ لا العطاء مقاصدها ، وطريق القدس على غير سكتها ، وشتم القيادة والشعب والقضية مسلكها وطريقا .
إلا أن ما حققه الشعب الفلسطيني وقيادته الفلسطينية الشرعية خلال مسيرة النضال الفلسطيني لصالح قضيتها وشعبها رغم كل الجراح وشلال الدماء ، أكبر ما حققته إسرائيل طوال فترة ظلمها ووجودها لصالح بقاء دولتها وأمن مستوطنيها رغم كل أسباب المنعة والقوة وشلال البشر والمال ، فقد تمكنت القيادة الفلسطينية وخاصة على عهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس ( أبو مازن ) الذي عاني من إسرائيل وعملائها أكثر مما عانى منه سلفه الشهيد عرفات ، والذي عاني من المعاول الفلسطينية الهدامة أكثر مما عاني منه أي زعيم آخر من بعض المعارضات المارقة المأجورة التي باعت نفسها لهوى الشيطان ، إلا أنه ورغم كل ذلك نجح إلى حد كبير ومشهود بتفكيك حبل الناس من حول إسرائيل ، مما أربك إسرائيل ومخططاتها ، وبإفشال الإعلام الصهيوني والعميل للنيل من الإرادة والحقوق الفلسطينية مما أفقدها رشدها وأخرجها عن صوابها ، فبدأت حملتها اللاأخلاقية تستعر وتتكاتف بترويج الزائف وبفبركة الكاذب ضده وضد أسلوب وبرنامج قيادته .
وكنتيجة مباشرة للصمود الفلسطيني وللجهد الجبار وللحراك السياسي الكبير الذي قام به الرئيس الفلسطيني أبو مازن ، طرأ تغير دراماتيكي كبير بمواقف أمريكا تجاه القضية الفلسطينية ، فبعد أن كانت أكثر الولايات الأمريكية وسكانها لا تعرف إلا إسرائيل أصبحت تعرف وتعشق وتدافع عن فلسطين ، وبمواقف الرباعية التي كان أكثر أطرافها سببا في إقامة دولة إسرائيل ، أخذت تتجهز الآن للاعتراف بدولة فلسطين ، وبمواقف أكثر دول العالم التي كانت في صف إسرائيل في كل الظروف والأحوال ، فباتت في صف شعب وآمال وطموحات وحقوق شعب فلسطين ، والأهم بمواقف الأمم المتحدة التي بدأت تأخذ موقعها المهم لدعم القضية الفلسطينية ولجعلها تشغل مقعدها في الأمم المتحدة ، كما و بدأت الأصوات العالمية مجتمعة وفرادى تتنادى للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وتدعوا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ، وحتى في داخل المجمع اليهودي الصهيوني ذاته ، برز التجمع اليهودي جاي ستريت المنادي بضرورة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية ، كند قوي للإيباك المنادي بوئد فلسطين وشعبها وقضيتها .
فالمعادلة الصعبة والصحيحة هي كلما كسبت فلسطين صديقا خسرته إسرائيل ، وهو الهدف الذي تعمل على تحقيقه القيادة الفلسطينية ، والتي نجحت بنقل القضية الفلسطينية من قضية شعب إرهابي يشكل خطرا على الأمن والسلم العالمي كما صورته إسرائيل ، إلى قضية شعب حر يؤمن بالسلم والأمن العالميين له كل الحقوق بوطنه وبدولته كما أثبتته قيادته ، ومن قضية لاجئين لهم حاجاتهم الإنسانية إلى مقاتلين من أجل الحرية ، من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، والتي ستقوم وإن مانعت الصهيونية وإسرائيل قيامها التي لا شك إلى زوال إن استمرت في غيها وضلالها وممانعتها للحق الفلسطيني ، أما دولة فلسطين فالعد التنازلي لقيامها بدأ منذ عرف العالم خطر إسرائيل عليه وعلى استقراره ، وشعب فلسطين وقيادته يقتربون أكثر فأكثر من لحظة الانتصار التاريخي الذي سيشهد رفع علم فلسطين فوق القدس ومآذن القدس وأسوار القدس ، حقا أنّ موعدها الصبح وصبح فلسطين سيشرق بعد قليل .
Alqaisi_jothor2000@yahoo.com