كنت قد كتبت مقالاً في مطلع العام الجاري ، انتقدت فيه المشهد \" غير الحضاري \" الذي نشاهده شهرياً أمام المكاتب البريدية بحق من جار عليهم الزمن وقذف بهم على أبواب التنمية الاجتماعية .. بل وكان الهدف من مقالتي ، مناشدة حاملي الحقائب الوزارية وعلى رأسهم رئيس الحكومة لرفع الذل عن هذه الفئة من المعوزين وأصحاب الحق الشرعي والإنساني للعيش بصورة محترمة غير قابلة للتفاوض ..!!
المشهد يا دولة الرئيس ... أنه وفي نهاية كل شهر تبدأ معاناة العديد من أجدادنا وجداتنا وأباءنا وأمهاتنا \" الذين جار عليهم الزمن \" وأخواتنا اللاتي لا حول لهن ولا قوة ، والمنتفعين \" لدريهمات \" تحت مسمى \" معونة \" ، مغموسة بالذل من الشؤون الاجتماعية أو المعونة الوطنية ، ومع طلوع شمس اليوم الأخير من كل شهر ، يبدؤون بلملمة أوراقهم والإستهمام لرحلة الطابور الشهري البغيض ، وفي داخلهم يقولون \" الله يلعن الحاجة \" ، التي أجبرتهم على الوقوف جنباً إلى جنب مع الذل وقلة الاحترام ، في ذاك الطابور الذي لم يعيه هؤلاء الأجداد والآباء إلاّ زمن القهر والجوع والحرمان والاستعباد الذي مارسه باشوات الدولة العثمانية على البشر طيلة أربعمائة عام ، رغم اعتقادهم أن عصر الاستعباد قد ولّى من غير رجعة ..!!
مواقف كثيرة وشبه يومية نشاهدها يا دولة الرئيس ، وبصورة باتت شبه مألوفة في مجتمعاتنا من عدم احترام الصغير للكبير ، وبات الاحترام \" حسب مفهوم هذه الفئة \" هي المنفعة المتبادلة ، رغم أن العديد من هؤلاء المنتفعين \" كانوا قد تبوأوا مناصب أكثر احتراماً من هؤلاء الذين يتبجحون بالمال والمنصب وهم في ذات الوقت بعيدين كل البعد عن صفة الاحترام التي يعتقدون أنهم يتصفون بها ..!!
دولة الرئيس .. إن هذه الصورة والمواقف الغير إنسانية بحق كبار السن هؤلاء ، وتلك المواقف التي تتكرر في نهاية كل شهر أمام المكاتب البريدية من الساعة السابعة صباحاً وحتى نهاية الدوام ، هيّ الصورة ذاتها التي سادت أبان الحكم العثماني والاستعمار الغربي ، الذي كانت الشعوب كباراً وصغاراً تقف طوابيراً من الذل والاستجداء من اجل الحصول على حفنة من القمح أو الأرز والتي لم تكن تسد رمق طفل من أطفالهم ..!!
ينتابني شعور مؤلم يا \" دولة الرئيس \" كما ينتاب الكثير من أبناء هذا المجتمع ممن لديهم خوف من شيخوخة قادمة لا محالة \" إن أمدّ الله بالعمر \" ، من يوم سيتصارع فيه الكبير الذي أفنى العمر و \" المروّه \" من أجل الغير ، مع ذاك الصغير الذي لا زال يختزن قواه بين الضلوع على لقمة العيش كصراع البقاء ..!!
أما آن الأوان \" يا دولة الرئيس \" وبعد كل هذا التقدم التكنولوجي أن تتلاشي هذه الظواهر المؤلمة لكبارنا .؟ وأن نقدم لهم الحد الأدنى من التقدير والاحترام وننقذهم من ذلّ طوابير المكاتب البريدية .؟ فهؤلاء هم الذين أفنوا الغالي والنفيس فداءً للوطن ، وهم الجذر الأصيل الذي تفرعت عنه تلك العقول النيرة والأيدي البيضاء وعلى كافة الأصعدة التي جعلت من الأردن يتمتع بصورته المشرقة والمزدهرة التي هي عليه الآن ...فكبار السن هؤلاء هم ذاتهم كبار القدر الذين يجب أن نقدرهم أفضل تقدير ونذهب أليهم ونقبل أياديهم وأن نقدم لهم \" مستحقاتهم \" عن عرق جهدهم ذاك ، الذي ساهم في رفع شأن هذا الوطن ، ولا نمنَّ عليهم بما سمي ب\" المعونة \" كنوع من العطف والإحسان ، و أن نرفع عنهم وسيلة الاستجداء أمام مكاتب البريد لقوتهم اليومي ..!!
وإنني وإذ أترك هذا الهمّ الإنساني والأخلاقي بين يدا دولتكم ، وأيدي ذوات الهمم العالية للمتابعة ، ورفع البأس عن هذه الفئة التي كانت وهي في أوج عطائها من تقديم دمائها فداءً لهذا الوطن وعرشه .. أذكر أن هناك أساليب عدة أكثر احتراماً وتطوراً في إيصال هذه \" المستحقات المالية \" إليهم دون المنّ عليهم ، ثم أعيدوا الدور السامي لمكاتبنا البريدية في نقل رسائل التواصل الحميم بين أبناء هذا المجتمع .. ولنقرّ أن هذه \" المستحقات \" هيّ حقهم الشرعي المكتسب من هذا الوطن وأبنائه لسدّ عوزهم والعيش بحياة كريمة ..!!!
akoursalem@yahoo.com م . سالم أحمد عكور