المجتمع الأردني، مجتمع تقليدي متماسك، أساسه العشيرة، وتربط أفراده صلات قوية أخرى عن طريق المصاهرة والجيرة والصداقة والزمالة وغيرها، وهو مجتمع للكلمة فيه أثرها، والعهد فيه رباط وثيق.
وقد جاء قانون الصوت الواحد ليوجه ضربة قاصمة لكل هذه الروابط التي تشكل نسيج المجتمع، لأن القانون يخيرك بين زيد وعمرو، فإما زيد وإما عمرو، فإذا كان زيد من عشيرتي، وعمرو صديقي، فلا بد أن أخسر أحدهما. والأدهى والأمر إن كان زيد وعمرو من عشيرتي، فمن انتخب؟ وماذا سيترتب على تصويتي لأحدهما؟
وجاء القانون الجديد المعدل باختراع الدوائر الوهمية التي زادت الطين بلة، وقضت على الروابط بما فيها العشائرية كوحدة اجتماعية، وحولت الانتخابات إلى عملية تكسير عظام، ومبارزة قذرة، وصراع حتى الموت، فالفائز واحد لا ثاني له.
لا يتوقف الخلل الاجتماعي على نتيجة الانتخابات، التي ربما تكون الأخف ضرراً، وإنما هو عملية متصلة متصاعدة منذ إعلان الرغبة في الترشيح، فتبدأ القطيعة، والتحشيد، وبث الشائعات، ونشر الفضائح، وكشف الأسرار، وربما تجاوز الحرمات، وهجر الأرحام، وسيادة النزاع والخصام، في عملية لا تمت للعمل النيابي بصلة، ولا علاقة لها بالسياسة ولا الخدمة العامة، ولا مصلحة البلاد والعباد، فالكل يتجاوز الخطوط الحمراء اجتماعياً للوصول إلى القبة لتحقيق أطماعه وأهدافه، والوطن أبعد ما يكون عن تطلعاته، وما الوطن عند هؤلاء إلا سلم للوصول، فإذا وصلوا تركوه خارج مدخل المجلس، وتفرغوا لملء جيوبهم، وتحقيق رغباتهم، وإشباع شهواتهم.
إن الانتخابات بشكلها الحالي لا تخدم إلا 120 نائباً وبطانتهم، أما بقية المواطنين فهم ضحية هذه الانتخابات، ولا يصلهم منها إلا دخانها الذي يعمي العيون والقلوب ويوغر الصدور، ويزرع اليأس والإحباط.
ورغم عدم قناعتي بدور العشيرة في فرز المرشحين وإيصال الفائزين، لأن الأصل أن يكون الفرز للكفاءة والقدرة والخبرة والنظافة والأمانة والخلق القويم، بغض النظر عن العشيرة، إن كنا نريد مجلس نواب حقيقي قوي قادر على العمل والقيام بواجباته خير قيام. ومع ذلك فإن ما يحدث من قيام العشيرة بفرز مرشحها، يؤدي إلى أمرين أحلاهما مر: الأول أن الفرز تم على أساس عشائري، وهذا الفرز قد يحرم مرشحاً قديراً من الوصول لأن لا عشيرة له، أو لأن عشيرته قليلة العدد، في حين يصل مرشح عشيرة كبيرة مع تواضع قدراته وخبراته. والثاني: أن الفرز العشائري يؤدي إلى خلخلة اجتماعية كبيرة داخل العشيرة نفسها، لعدم توافقها التام على مرشح واحد، فبعض العشائر فرزت عدة مرشحين في تحد واضح لسلطة العشيرة، وأيضاً من شأن ذلك حدوث توترات بين العشائر المختلفة في المنطقة الواحدة وتفتيت الروابط بينها، بل والقطيعة أحياناً.
إن الأثر المدمر للانتخابات النيابية يمتد تأثيره إلى ما بعد الانتخابات لينعكس سلباً على مجمل الحياة الاجتماعية، وتبقى جذوة الخلافات مستعرة كالنار تحت الرماد، وتشتعل عند أقل احتكاك، كالانتخابات البلدية والمشاكل، والتنافس على المناصب المختلفة، والصراعات الحزبية. وتتمظهر بشكل سافر في تقديم الخدمات والوساطات والتحيز في المؤسسات الرسمية والخدمية وفي أي مجال من مجالات العمل العام في الأندية والجمعيات وغيرها.
إن الكلفة الاجتماعية للانتخابات النيابية باهظة جداً، يقطف ثمرتها النواب الفائزون، ويدفع فاتورتها الوطن كله من أمنه وروابطه وعلاقاته وتماسكه!
mosa2x@yahoo.com