كثيراً ما نغفل كمواطنين نعشق ترابَ وطننا ، عن أنّ بعض عاداتنا الموروثة كانت تناسب أجدادَنا وآباءَ أجدادِنا وربما ناسبت آباءَنا في يوم ٍمن الأيّام ، ولكنها لم تعد في حالٍ من الأحوال تناسب ظروفنا وظروف أبنائنا ومن يتلوهم . وأنا طبعاً لا أشكّك في حكمة أسلافنا ، ولكنني أشدّد أنّ ما كان يحصل في زمـانهم لم نعد نرى منه إلا النّزرَ اليسير ، وأُغرِقت أجيالُنا الجديدة في عوالم ِالتّكنولوجيا وجفافِ الحنان الأسريّ تحـديداً والبشريّ عموماً ، والتّواصل بين الأهل والأقاربِ برسالةٍ عبر جهاز الخلويّ أو عبر البريدِ الإلكترونيّ توصل تهانينا لهم في مناسبةٍ ما. إضافةً إلى شحّ جيوب المواطن المتوسّطِ الحال فلم يعد قادراً - بسبب تراكم الضّرائبِ وارتفاع الأسعـار الجنونيّ للسّلع كافةً والخدماتِ والتّعليم ومعظم نواحي الحياة - لم يعد قادراً على القيام بواجباتهِ الاجتماعيّةِ الكثيرة دون أن يؤدّي ذلك إلى كسرِ ميزانيّته الضئيلةِ أصلاً ولجوئهِ إلى الدّيْن.
وينبغي علينا - ونحن ذوي بصرٍ وبصيرة - ألا نُصِرّ على التمسك بمثل هذه العادات السّلبية حالياً لأنهـا بكلّ بساطة لم تعد على مقاسنا ، وتغيّرت ألواننا ، ولهذا صار لزاماً أن نُفصّل لهذا الجسدِ ثوباً جديداً ، يناسب ظروفنا . فإعداد الذبائح الكثيرة على سدور المناسف في أعراسنا ، لم يعد مناسباً لأسرةٍ ستقضي شهوراً تسدّد ثمن هذه الذبائح حتى لا يُقالَ عنها بخيلة !! والولائمُ في كلّ المناسبات - بلزوم ٍأو بلا لزوم – ثم إلقاءُ أغـلبـها في الحاويات حتّى يُقالَ أهلُ كرمٍ وجود ، والإسرافُ المقيتُ لعائلاتٍ لا تأكلُ ربعَ ما تُعدّهُ مقابلَ أُسَرٍ لا تجد ما تأكله ، كلّ هذا من الإسراف المنهيّ عنه في ديننا الحنيف ، ولن يقرّبنا من الله زُلفى لأنه رياءٌ للناس .
في فترة الانتخابات نرى آلاف الآلاف من الدنانير تتبعثر بين أعمدة الكهرباء وعلى أوراقٍ أغلب ما فيها يذهب هباءً منثوراً ، تطبيقاً لِمَثلٍ شعبيّ مثيرٍ للضّحك يقول : ( إللي معه قرش ومحيّره ، يشتري حمام ويطيّره !! ) ، وكأنّ هذه الأموال ليس الأوْلى بها أن تذهب لمساعدة الفقراء ودعم الاقتصاد الوطني ، أو مساعدة أهل حيّ يعانون من نقص المياه ، أو دعم قطاع الزراعة للمساهمة في خفض أسعار الخضار وما يحتاجه الناس من أجل قوتهم اليومي ، أو متابعة الأدوية الباهظة الثمن والتي يحتاجها الناس بكثرة ومحاولة توفيرها لهم بتكلفة مناسبة ، هذا ما يسبب نجاح المرشّح أو فشله ، وليس بمقدار ما نرى محيّاه ( المعدّل وفق أحدث برامج الحاسوب ) على أطراف شوارع مدننا وقُرانا ، وإن كنا قبل فترة الترشيح ، وبعد الانتخابات نتلمّسُ معرفة ملامِحَه فلا نجدها !!
أقاربُ العروسيْن والناجحين في الثانوية أو في الجامعة ومن توظّف حديثاً والمترفّعين حديثاً ومن منً الله عليه بطفلٍ ومن قام بختان طفله الذّكر وغيرها من مناسبات ، وإلزامُ أهل ِوأقاربِ هؤلاء – أدبيّاً – وتحت طائلة النّبذ الاجتماعيّ بضرورةِ دفع ( النّقوط ) فيما بات يشبه الإجبارَ والإكراهَ بسبب الدّعوةِ العلنيةِ لك بضرورةِ التهنئة لأنّ الأمرَ ديْنٌ وسداد.
إصرارُنا على إطلاق الأعيرةِ الناريّة في أفراحِنا وحرق سمائنا بالألعابِ الناريّة وإطلاق أبواق الّسيارات في أفراحِنا ونجاحاتنا ، غيرَ عابئينَ بعدد القتلى نتيجة رصاصةٍ طائشةٍ ، ولا بقوانين الدّولةِ المانعة ، ولا بعدد الأطفال الذين انفجرت في وجوههم هذه المفرقعات فأصيبوا بعاهةٍ مستديمةٍ ، ولا بإزعاج الآخرين وإغلاق الشوارع لساعاتٍ ، فقط ، لأنّ من حقّنا أن نفرح وليذهب الآخرون إلى الجحيم !!
إلزام العروسيْن في بداية حياتهما أن يرزحا لسنواتٍ وسنوات تحت قيود الدّيون والأقساط حتى يقول المدعوّين أنّ فرحَهما كان أسطوريّاً ، وأنّ العريسَ قد غطّى عروسَه بالذّهب – والذي سيضطّران من أول شهر لبيع معظمه لتسديد ديونهما – وبيتُ الزوجيّةِ الفاخرِ المجهّزِ ( من الإبرةِ للصّاروخِ ) ، وقضاء سبعٍ من السّهرات واللّيالي المِلاح قبل العُرس وأصواتُ الفرقة الموسيـقية تصدحُ حتى بعد منتصف الليل ، لمَ لا ؟؟ أليس هذا ابني البكر وأريد أن أفرح به ؟؟ ولا يهمّ إنْ كان في الصّباح أناسٌ لم يناموا وذهبوا لأعمالهم نصفَ نيام !! و أذكّـركَ أن تـأخـذ معك بعضَ (الخبز والحلاوة) وأنت تزور العريس - إيّاه - وراءَ قضبان السّجن بعد عدّة شهور لأنه لم يتمكن من تسديد قروضه وديونه!!
أما الأدهى والأمرّ فهو عدمُ احترام ِ جلال الموت ، وقضاءُ أيّام العزاءِ في تبادل الأحاديثِ الجانبيّة التي لا تستشعر رهبة الموت ، ولا تسمعُ آيةً تُتلى بين الحاضرين استجلاباً للهدوء والسّكينة لأهل الفقيد وتصبيراً لهم على ما فقدوا ، بل وإلقاء النّكاتِ أحياناً ، ومعرفة أخبار الأهل والخِلان الذين لم نلتقِ بهم مؤخّراً وإرهاق الجميع بالولائم لسكان الحيّ والزائرين بدل تركهم لأحزانهم . كلّ هذا وأهلُ الفقيد لم تجفّ دموعُهم بعد ،وسرعان ما ننسى أمرَهم تماماً بمجرد انتهاء الأيّام الثلاثةِ التي قمنا بها ( بالواجب ) !!
أمّا عن الزيارات فحديثها طويل ، فالجارةُ تجد نفسها ( فاضية ) اليوم فتنقضّ على إحدى جاراتها بلا إذن ولا استفسار ، إن كانت مشغولة أو ستخرج أو عندها ضيوف أو ستنام أو ستستحمّ ، فهذا لا يعنيها ، المهم أن تقضي وقت فراغها بالثرثرةِ وليحترق طعامُ عائلتكِ ولتقضي من غيظك وأنتِ لا تتجرئين على الاعتذارِ منها . وحتى الزّياراتُ من الأهل القاطنين في محافظاتٍ أخرى ، فقد تُقرّر شقيقتَك زيارَتك - هي وأولادُها الخمسة - في آخر الشهر ، وأنتَ لست مستعداً لذلك ، فهل تجرؤ على الاعتذار مثلاً ؟؟ أم ستلجأ لأقرب شخص وتستدين منه مبلغاً يسترُ وجهك لتقدر أن تجهّز لهم وليمة غداءٍ أو عشاءٍ ؟؟ هذا عدا عن الحديث في زيارات المرضى عن قصص المرض والموت مما يجلب للمريض الكَدَر والهمّ ويراك ثقيلاً على قلبه، وإطالة المكوث عنده فلا ينالُ حظّه من الرّاحة .
أنا لستُ ضدّ الكرم ِأحبّتي ولستُ ضد إكرام الضّيف ، فهي صفةٌ أصيلة في نفس كلّ عربيّ ، ولكن أن نرحم بعضنا ونراعي الظروفَ الاقتصاديّة والماديّة لإخوتنا ( فالرّاحمون يرحمهم الرّحمن )، وأرى من واجب كلّ عشيرةٍ أن تفرض على أفرادها تطبيق العديد من المواثيق التي تمّ الاتفاق عليها كثيراً دونما تنفيذ، وبالتّالي يزداد عددُ المطبّقين للتغيير تدريجيّاً ودون تحرّج من المبادَرة ، لنحاربَ الإسـرافَ كما نحاربُ التقتير ولنكن أمّـةً وسطاً ، لنشعر بأبنائنا المقبلين على الزّواج ولا نُرهِق كاهلهم بأعباءَ تقصمها ، لنُراع ِ الآخرين في تصرّفـاتنا حتى يراعونا فحرّيتنا تنتهي على أعتاب حرّيتهم ، ولنفكر أننا إذا أردنا أن نمثل الشعب فعلينا أن نمثله حقاً لا أن نعلو ونكبر على أكتاف ضعافه وفقرائه ثم نتنكر لهم ، ولنخسر ثمن مكالمةٍ هاتفيةٍ صغيرةٍ نستأذن فيها بالزّيارة فهذا خُلُقٌ إسلاميّ قويم ، ونجدُ العذرَ لمن يعتذر ولا نقاطعه فنحرّم عليه الزيارة ، فالبيوتُ أسرار. ولنذكر حديثَ المُصطفى عليه السّلام : ( إنّما بُعِثتُ لأُتمّمَ مكارمَ الأخلاق ) وقال حافظ إبراهيم :
\" إنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت * * * * * * * * فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهُم .. ذهبوا \"
nasamat_n@yahoo.com