بين هبة نيسان المجيدة عام تسعة وثمانين قبل واحد وعشرين عاما وهبة تشرين الحالي التي نعيشها هذه الأيام في عامنا هذا 2010 مفارقات كبيرة ومقاربات كثيرة لا بد من التوقف عندها بعض الشيء.
فهبة نيسان عام تسعة وثمانين أعقبت تدهورا في الحالة الاقتصادية وارتفاعا كبيرا في المديونية وتضخما وانخفاضا في سعر صرف العملة، وهبة تشرين اليوم تأتي في ظل أسوأ أزمة مالية يعيشها الأردن والعالم وظروف قاهرة من المديونية والغلاء والبطالة وفصل صغار الموظفين والعمال وأفق مسدود لا يبشر بانفراج قريب.
وهبة نيسان عام تسعة وثمانين أعقبها استئناف الحياة الديمقراطية بعد اثنين وعشرين عاما من التوقف القسري وانتخاب مجلس النواب الحادي عشر الذي يشهد له الأردنيون وغير الأردنيين بأنه ولد في انتخابات نزيهة ممثلة لشرائح وأطياف المجتمع الأردني وكان من الفعالية والتأثير ما مكنه ومكن الأردن من تجاوز أزمة من أخطر الأزمات السياسية التي عصفت بالمنطقة ألا وهي حرب الخليج الأولى وخرج الأردن منها متماسكا موحدا ملتحما قيادة وشعبا، أما هبة تشرين التي نعيش بألم أحداثها هذه الأيام في السلط وماحص ودير علا والكرك وامرع والطفيلة ومعان ومادبا وسلحوب وجرش وعجلون وكفرنجة والمفرق وسال وبشرى وإربد وحتى في عاصمتنا الحبيبة في بيادر وادي السير والقويسمة وحي الطفايلة وشفا بدران فإنها تأتي ردة فعل طبيعية ومتوقعة على أحداث تزوير صارخة "قانونية" باختراع الدوائر الفرعية الوهمية التي حرمت (26) مرشحا من الفوز وقد حصلوا على أصوات في دوائرهم الرئيسية أعلى من الفائزين الآخرين ودفعت ب(18) مرشحا معظمهم من المقربين للحكومة للفوز وقد حصلوا على أصوات أقل من زملائهم المخفقين مما أشكل على عقول عامة الناس تقبله واستيعابه، وهي أيضا –هذه الأحداث- ردة فعل تلقائية على حوادث التزوير الفاضحة مثل التصويت عن الحجاج والمغتربين والأموات وتزوير الهويات مما حدا بقناة الجزيرة الفضائية إلى عرض أربع هويات مزورة على شاشتها الأكثر مشاهدة في العالم، وشراء الأصوات بشكل شبه علني، والتأخر في إعلان النتائج في بعض الدوائر رغم محدودية عدد المصوتين، وتورط أحد أبرز الفائزين بممارسة الانتخاب في دائرة أخرى غير دائرته التي فاز فيها كما جرى التصريح بذلك في المؤتمر الصحفي الرسمي لوزير الداخلية، وحصول أحد المرشحين في السلط على 1300 صوت بشكل مفاجئ من مركز اقتراع ليس له في منطقته أي أنصار أو مؤازرين، كما وتأتي هذه الهبة التشرينية نتيجة متوقعة لقانون الصوت الواحد الذي كرس العشائرية والمناطقية والفئوية والعصبية القبلية بل إنه مزق القبيلة الواحدة والعشيرة الواحدة والعائلة الواحدة والبيت الواحد وأحدث من الشروخ التي سالت في بعضها دماء عزيزة تحتاج لكي تلتئم جراحها إلى سنوات عديدة وليس كما وصف وزير الداخلية ببساطة متناهية في مؤتمره "نحن –الأردنيين- فلاحون نرفع شواعيبنا نتقاتل على البيدر ثم نتغدى سوية"!
وكما أن مجلس النواب لحادي عشر الذي كان نتاجا طبيعيا لهبة نيسان المجيدة كان له الدور الأكبر مع القيادة السياسية في صمود الأردن أمام عاصفة حرب الخليج عام واحد وتسعين -كما أسلفنا- فإننا نتوقع أن يكون لمجلس النواب السادس عشر –إن كتبت له الحياة طويلا- دور غير مرغوب شعبيا في تمرير اتفاقيات مصيرية تمس حقوق الشعبين الأردني والفلسطيني وتقدم من التنازلات ما يرفضه رفضا قاطعا أي مجلس نيابي يمثل الأردنيين من شتى أصولهم ومنابتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية تمثيلا حقيقيا عادلا.
لقد استطاع مركز صناعة القرار السياسي الأردني عام تسعة وثمانين أن يمتص الغضبة الشعبية ويرشدها ويوجهها ويستجيب لمنطلقاتها العفوية العادلة باستئناف حياة ديمقراطية نيابية وحزبية وإعلامية حقيقية، أما في عامنا هذا 2010 فإن السياسة الداخلية الأردنية قد خسرت أقرب أنصارها وأكثرهم ولاء وإخلاصا وانتماء ألا وهم العشائر الأردنية -جران هذا الوطن وعمود خيمته- والتي تنتفض هذه الأيام وتحتج أشد الاحتجاج وتعلن صارخة أن لا نصير لها ورافع لمظلمتها -بعد الله تعالى- إلا جلالة الملك حفظه الله صمام الأمان في هذا البلد والقائد الأعلى لمسيرته المباركة.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات