يتقاذفهم الموج من مكان إلى آخر ، يحمل قلوبهم إلى مكان بعيد حتى يظنوا أن لا ملاذ إلا في كنف الله ، فتلهج ألسنتهم بالدّعاء والصّلاة وطلب الرحمة من المولى تبارك وتعالى ، اعتادوا أن يحملوا أمتعتهم من مكان إلى آخر ، وكل حين يبدؤون رحلة الطواف كالبدو الرّحّل من مكان إلى آخر ، هم وأطفالهم وكل ما يملكون ، لا يعرفون لهم مكاناً ثابتاً ولا عنواناً وحيداً ولا بيتاً ينتمون إليه . هؤلاء هم مستأجرو البيوت وفق قانون الإيجارات الجديد.
ربما لستُ أول من يكتب في هذا الأمر ، ولن أكون الأخيرة ، ولكنني سأكتب من منظور مختلف ، ربما لم يشعر به المالك لأنه اعتاد أن يسكن في بيته نفسه بسبب ملكه له. أما المستأجر فتضطره عقود الإيجار المتزايدة من عامٍ إلى آخر إلى الخضوع إلى رحلة البحث و التوهان لإيجاد شقة تناسب دخله . سأذكر حالة لأسرة أعرفها وأشرح ما ترتب بسبب القانون الجديد عليهم كأفراد، وبالقياس سنقيس على البقية.
بناية بنيت في إحدى مناطق عمان قبل عام 1960، واستأجر فيها المستأجر وزوجته شقة في بداية السبـعينات، وكانت قيمة إيجارها في ذلك الوقت من أغلى الإيجارات في المنطقة. واستمرت الأسرة تسكن الشقة لمدة حوالي الأربعين عاماً ، وقد تضاعف الإيجار منذ ذلك الحين ثلاثة مرات وعلى وشك التضاعف للمرة الرابعة قبل إخلائهم في نهاية العام القادم للأبد. هذا إن علمنا أن مبنىً عمره خمسون عاماً لا أعتقد أنه حافظ على بهائه وجماله فيما عمره الافتراضي يكاد ينتهي تقريباً ، فلماذا يصبح إيجاره معادلاً لشقة جديدة في نفس الحيّ بنيت منذ ثلاثة أو أربعة سنوات ؟
هذا أولاً ، وثانياً جميع أبناء هذه الأسرة قد نشؤوا ودرسوا وتخرجوا وتزوج منهم مَن تزوج وهم لا يعرفون لهم إلا هذا البيت، فهم يحتفظون بذكرى عن كل ركن فيه ، ومع كل شخص عاش فيه ، سواء ذكرياتٍ جميلة أو سيئة ولكنها تبقى محفورةٌ في الذاكرة . ومن يريد الوصول إليهم على مدى السنين يمكنه أن يتذكر عنوانهم ويصل إليهم بسهولة ، وهكذا نشؤوا على الانتماء للأسرة وعرفوا أن هذا الانتماء هو الجزء الأصغر من الانتماء للوطن والمجتمع . لأن من يتعلق بحب المكان يمكنه أن يجد لنفسه المبرر للدفاع عنه وحمايته ورعايته. وهذا أبسـط معنىً للانتماء!
وكيف ستقنع أسرةً اعتادت أن تتعامل مع أشخاص معينين في حياتها اليومية، كالباعة والجيران وأماكن الدراسة للأطفال، ونظّمت ميزانيات مواصلاتها بالنسبة لموقع عملها ورسمت خطوط حياتها بأفضل ما تستطيع حتى تتمكن من توزيع دخلها وفق ذلك. كيف سنقنعها أن هذا الاستقرار على وشك أن ينتهي لأن المالك قد شعر فجأة بالغبن والظلم وقرر طرد الأسرة الملتزمة له بإيجاراته – حتى بعد أن زادها – وبقوة التنفيذ الجبرية ؟؟
ألا يجب أن تكون هناك لجانٌ تقوم بفحص المباني عند كل موعد زيادة في الإيجارات وتقدر نسبة الزيادة حسب العمر الافتراضي للمبنى حتى لا يقع ظلم على أحد الطرفين ؟؟ ألا يجب أن يتم تحديد عقود الإيجارات السكنية بحد أدنى 5 – 10 سنوات مثلاً أو حسب رغبة المستأجر إن رغب قبل ذلك بالإخلاء، حتى لا نساهم بخلق فوضىً وتشتتٍ أسريّ كبير وندفع المواطنين المرهقين مادياً إلى الخضوع لبعض جشع المالكين لأنه لا بد لهم من إيجاد مساكن تؤويهم وأسرهم ، وهكذا قد يضطرون للخضوع لأي طلب حتى يجدوا مأوىً لأسرهم. أليس في هذا نوعاً من الابتزاز ؟
هذا من ناحية الإيجارات السكنية ، أما العقود التجارية فموضوعٌ شائكٌ آخر ، فالتاجر كما نعلم عندما يستأجر محلاً جديداً ينفق الكثير على الديكورات والأرفف والبضائع وأبواب الزجاج التي يتم تفصيلها على قياس هذا المحل تحديداً ، عدا عن تركيب بوابات حماية حديدية أحياناً ، وكذلك بعض الورش والمحلات الصناعية التي تضطر لتفكيك آلاتها وأجهزتها وتضييع الكثير من الوقت على الفكّ والتركيب والنّقل ، وربما خسارة العاملين فيها بسبب تغيير مكان المحل الجديد وبُعدِه عن مقرّات سُكناهم فلا يعود راتبهم مجدياً إن تم إنفاقه على المواصلات ، فيقرّروا ترك العمل وبالتالي تزداد نسبة البطالة وتتشرد أسرٌ كثيرة لتوقّف معيلها عن العمل . ترى ، هل سيتحمل المالك خسارة التاجر أو الصناعيّ لما تم تركيبه في محله من ديكورات وأبواب وغيرها ؟ لأنه سيضطر إلى الترحيل منذ الآن كل بضعة أعوام ، أم ترانا سنكتفي بعرض البضائع في صناديق تشبه
( البسـطـات ) المعروضة على الشوارع دون ديكورات حتى نكون جاهزين للخروج في أية لحظة ؟؟!!
هذا عدا عن شهرة المحل أو المكتب الذي يقوم صاحب المحل بالعمل عليها لسنوات حتى يصبح محله مَعلماً من معالم شارع ٍما ، فيدلّ أحدنا صاحبه على عنوانٍ ما بقوله ( بجانب محل أبو فلان ) أو ( هل تعرف سوبر ماركت فلان ) ؟ فكيف سيعوّض المالكُ المستأجرَ عن مثل هذه الخسارة المعنوية الفادحة ؟؟ وخاصة أن تغيير العنوان سيترتب عليه تغيير رقم الهاتف والفاكس وكل وسائل الاتصال مع هذا الشخص الذي كلما عرف له عنوان سيكون مضطراً لتغييره كل بضع سنوات ،مما يُفقده زبائنه المعتمدين ، ليصبحوا كالباحث عن إبرة في كومة قش !!
فهل هذا ما تهدف إليه الحكومة من تطبيق القانون لإرضاء فئة المالكين على حساب فئة المستأجرين وهي الأغلبية ؟ هل تهدف إلى عكس عملية الترحيل التي كان البدو الرّحّل يستخدمونها في حمل بيت الشَّعر والانتقال من مرعىً إلى آخر بهدف إيجاد الماء والكلأ ؟؟ فهل تنفع هذه السياسة الآن مع سكان المدن ؟
طبعاً نحن لسنا ضد أن يُراعى حق المالك في أن ترتفع نسبة الإيجار بطريقة عادلة وغير مجحفة وتناسب العمر الافتراضي لمبناه . ولكن ما نحن ضدّه هو تشريد الآلاف من السكان والتجار إلى الشوارع حسب تقرير قرأته من أيام أن هناك 267 ألفاً سيفقدون عملهم مع بدء تطبيق هذا القانون الجائر- هذا من ناحية العقود التجارية فقط ، فكيف إذا أضفنا إليها العقود السكنية ؟؟- فهل هذه سياسة حكيمة ؟؟ أن ندفع بأكثر من ربع مليون مواطن عامل إلى حافة البطالة والجوع ونبدأ بعدها بطلب المعونات والشكوى من ضيق ذات اليد وارتفاع نسبة الانحراف والجريمة . ترى كيف سيجد هؤلاء جميعاً فرص عمل سريعة يؤمّنون بها لقمة عيش ٍلأسرهم ؟؟ إن استطاع جزء منهم تدبير وضعه فكيف نتصرف بالبقية ؟
وحتى بالنسبة لمبادرة سكن كريم ، فبرغم سعادتنا بهكذا مشروع إلا أنه تم اختيار أماكن بعيدة جداً لا يستطيع المواطن التعوّد على بُعدها ، إضافة إلى أن البنوك ترفض تمويل أيّ مواطن ما دام عليه قرض للبنك غير مسدّد ، وكثير من المواطنين يدبّرون أمورهم بالقروض مجبَرين ، وتتسابق البنوك لشراء قرضك من البنك الذي أنت فيه لتلزِمَكَ بالاشتراك معها لتقوم هي أيضاً بامتصاص الباقي من مالك ودمائك !! وهكذا تضيع فرصتك في أخذ البيت – على فرض أنك ستقدر على احتمال بعد المكان - !!
أقترح على الحكومة أن تبدأ بالتفاوض على شراء البيوت المتنقلة التي يتم ربطها بالسيارات أو بالشـاحنات
( كارافانات ) من الدول الأجنبية ،بل وتشجيع صناعتها محلياً ،وبأحجام متفاوتة تناسب دخل المواطن وحاجته. فهذا أسلم حل لفكرة التنقل المستمرة للمواطنين ، وهكذا نستطيع تحقيق أكثر من فكرة معاً ويمكن للمواطن أن يشرب قهوته في عمّان ويتغدّى على مشارف قلعة الكرك ، ويتناول عشاءه على شاطئ العقبة الحبيب إن أحب ذلك هو وكل أسرته وكامل أثاثه برفقته وقد يسكن في منطقة شعبية أو راقية دون أن يضطر لشراء الأرض أو دفع ضريبة مسقفات ، ويستجيب لحالة الطقس ففي البرد يذهب للعقبة أو الأغوار وفي الحرّ يقطن قرب عجلون والمصايف!!
ربما تظنوني أمازحكم ، لكن في ظل ما سيقع كنتيجة لتطبيق القانون سيجد الجميع أن هذا الحل سيكون الأجدى ! فليرحم الله أمته ولينظر بعين الرحمة والرأفة إلى الأسر التي سيظلمها هذا القانون. وعسى أن ينظر مسؤولونا إلى أفراد الشعب باعتبارهم أمانة في أعناقهم ، وليس باعتبار أن معظم المسؤولين مالكين ، ولن يتفهموا حاجة الناس . في النهاية أقول ، تطبيق هذا القانون بوضعه الحالي يعتبر مأساة حقيقية ، فينبغي الأخذ بكل ما سبق ومراعاة جميع الأطراف قبل تنفيذ أي قانون.
كل أمنيات الخير للجميع وكل عام وأنتم بخير.
nasamat_n@yahoo.com