لم يكن يدور بخلد السيد "خالد منصور خريسات" الذي يعمل سائقا في جامعة البلقاء التطبيقية في مدينة "السلط" والذي ينزل كل مساء بسيارته المرسيدس الصفراء القديمة التي لا تحمل لوحات ولا ترخيصا في طريق شديد الانحدار والوعورة نحو مزرعته الشفا غورية في حوض "الرملة" من أراضي "كفر هودا" –القرية التاريخية المطلة على الضفة الغربية- لم يكن يدور بخلده أن هذه السيارة ستكون سببا في استشهاد ولده "سليمان" الشاب العشريني الذي يعمل معه في نفس الجامعة.
وحيث أن السيد "خالد" موظف بسيط ومتزوج من أربع نساء وله العديد من الأبناء، ولكون الطريق الوحيد الذي تسلكه سيارته كل يوم لم يشهد مرور أي رجل أمن ولم يخطر ببال أي مسؤول في يوم من الأيام تعبيده أوتأهيله فقد كان يرى من الترف مجرد التفكير في ترخيصها أو تركيب لوحة عليها.
وعندما شاءت الأقدار أن يجنح أولاد السيد "خالد" بسيارة أبيهم بضعة مئات من الأمتار نحو الشارع الرئيسي قرب شرفات قصور بعض كبار المسؤولين رصدتهم الدورية الأمنية التي يبدو أنها أنهت مطاردتها لكل عصابات المخدرات والتهريب والسطو المسلحة ولم يبق أمامها إلا اصطياد هؤلاء الشباب العزل، فطاردتهم على مشارف "كفرهودا" التي تشهد مرور سيارة واحدة على الأكثر كل نصف ساعة، ولم يثنها عن اللحاق بهم سوى حجارة صغيرة من أيدي أطفال عشيرة "الخريسات" ربما اعتبروها تحية ومداعبة لسيارة غريبة تضم أناسا غرباء، فكانت هذه التحية الخشنة سببا في أن دب الذعر في قلوب رجالات الدورية الأمنية واضطروا اضطرارا للدفاع عن النفس وإطلاق الرصاص الحي على الشاب "سليمان" ليفجروا رأسه وتتطاير أجزاء من دماغه، رغم أن التقارير الطبية الرسمية حتى ساعة كتابة هذا المقال تفيد بأنه حي.. ولكنه ميت سريريا فقط!
وقبل أن يفيق أهل الشهيد وذووه من الصدمة المؤلمة كان بيان الناطق الرسمي باسم مديرية الأمن العام جازما بأن إطلاق النار مصدره مجهول وأن الدورية الأمنية لم تتورط في هذه الجريمة، بل إن أحد المواقع الإخبارية الإلكترونية "المعتبرة" اجتهدت بأن الشهيد ربما أطلق النار على نفسه، مما أجج شعورا عميقا لدى كل أبناء السلط وشبابها بالمهانة والاحتقار لقيمة النفس الإنسانية وقيمة الحقيقة الناصعة التي لا تغطى بغربال التضليل والافتراء، وشعر أهل السلط جميعا بكل عشائرهم وعائلاتهم وليس فقط عشيرة "الخريسات" بالصفعة القوية التي توجهها إليهم الحكومة برفض اعترافها بمسؤولية كوادر الأمن عن هذه الخطيئة الدموية بحق مواطن بريء لا لذنب إلا لأنه رفض التوقف.
ولم يكن أبناء السلط ومنهم عشيرة "الخريسات" قد استفاقوا من صدمتهم الأولى التي لم يمض عليها بضعة أيام، عندما وجدوا قرابة ألف ورقة اقتراع لمرشحهم في الانتخابات النيابية الأخيرة ممهورة بالتوقيع والختم وقد أفرغت من الصناديق وألقي بها في أكياس النفايات التي ضبطوها ويحتفظون الآن بها، فضمنوها برقية شكوى إلى جلالة الملك حفظه الله ولم يجف حبرها بعد.
إن الأحداث المؤسفة التي عصفت بالسلط –حاضرة الأردن والعاصمة الأولى لجلالة الملك المؤسس عبد الله الأول رحمه الله- يتحمل مسؤوليتها البيان الرسمي الأول لمديرية الأمن العام ومن أوعز بإصداره ومن وقف وراءه، وإن صدور البيان الثاني الذي يكذب البيان الأول ويعترف بمسؤولية كوادر الأمن العام عن إطلاق النار على الشهيد "سليمان الخريسات" لهو دليل إدانة واضح والاعتراف سيد الأدلة، وكان من الأولى بقيادة الأمن العام أن تتحلى بالشجاعة الأدبية التي عهدناها عنها دوما -وعن مديرها الحالي بالذات- منذ اللحظة الأولى وتوفر على مدينة السلط معاناة هذه الليالي المؤلمة التي اختنق فيها أطفالها ونساؤها بعشرات من قنابل الغاز وهم في عقر دورهم.
ورغم كل ما حدث فإن المسؤولين الذين يتصدرون الواجهة بدءا من وزير الداخلية وانتهاء بالمحافظ يحملون الصفة الأمنية ويفكرون بعقلية الدرك ورجال الأمن ويتقنون حكاية الاعتقال ثم الإفراج بكفالة، لتتحول القضية من قضية إنسانية وحقوقية واجتماعية لها أبعاد اقتصادية وسياسية إلى قضية أمنية بحتة، ويظل "الحل الأمني" هو الحل المنشود بل الحل الوحيد لكل الاختناقات التي يعاني منها مجتمعنا، والتي تظهر على شكل احتقان اجتماعي يتفجر أو يجري تنفيسه ليحدث اختلالات أمنية يتعامل معها أمنيا فقط، دون أن يعالج السبب الحقيقي الكامن وراء هذه الاختلالات بأبعادها الأخرى المجتمعية والاقتصادية.
قد يخطئ كثيرا من يركز على من هم خلف أحداث الشغب التي عصفت بشوارع "السلط" –رغم معارضتنا الشديدة لأي تخريب للممتلكات الخاصة أو العامة أو أي إيذاء لأي كان مواطنا أو رجل أمن- فمنهم من برأ عشيرة "الخريسات" من أي مشاركة كما أكد الناطق الرسمي للأمن العام، ومنهم من اتهم الخلايا النائمة، ومنهم حدد توجهات سياسية معينة، ومنهم من اتهم الخاسرين بالانتخابات، ومنهم من وصف المشاركين بالزعران والمحكومين والمطلوبين أمنيا، وكل ذلك إمعان في الابتعاد عن جوهر المشكلة المحددة وهي شعور المواطن بعدم التقدير لحقه المقدس في الحياة أولا، ثم حقه المقدس في الحياة الكريمة ثانيا بكل مجالاتها من اكتفاء اقتصادي وحرية سياسية وحرية تعبير وصدق تمثيل وتحقيق للذات والمكانة الاجتماعية والحياة الأسرية والشعور بالعدالة والمساواة وحق التعليم والعمل وعدم التمييز والتقليل من الفوارق الطبقية الشاسعة.
رغم أن العديد من الوزراء والمسؤولين السابقين يقطنون في فلل وقصور على قمم الجبال السامقة التي تطل على "كفر هودا" مهد الشهيد "سليمان خريسات" ومسقط رأس والده وأجداده ، ولكني أجزم بأن أحدا منهم لم يفكر يوما بأن يشرب فنجان قهوة في سهول "الرملة" حيث مزرعة والد "سليمان" ذات الطريق المنحدرة والوعرة لأنه لا يوجد فيها كهرباء ولا ماء سوى بصّة من عين "قمصون"، وربما لأنهم جميعا –رغم كل سياراتهم الفارهة- لا يملكون سيارة مرسيدس صفراء بلا لوحات ولا ترخيص.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات