صباح ليس كأي صباح ..يتجهزون لاستقبال الغائب عنهم منذ نصف عقد ..اصطفوا بالدور على عتبة (الحمام ) وعلى مراتهم الوحيدة في واجهة خزانتهم الوحيدة ..وغايتهم ان يظهروا باحسن صورة فالغائب عنهم سيكون اليوم بين احضانهم هو وشهادته وزوجته. تلك ستكون غرفته فقد ازدانت بالالوان الريفية وعلقت على حوائطها صور طفولته وشهاداته المدرسية لتعيد اليه ذكرياته, وها هنا برواز جديد فارغ ينتظر وصول الشهادة الجديدة وذلك الكرسي المتلهف لجلسته يجاور مكتبه وسريره الخشبي ومازالت شجرة (الكينا ) مطلة على غرفته منتظرة اياه ان يعود..
اطلق جارهم( زامور ) حافلته مستعجلا اياهم ..فوجهتهم المطار البعيد عن قريتهم ..ركبوا جميعهم تاركين مقعدين فارغين
ساروا بسرعة والوقت يمضي عليهم ببطء ..تقوم الام بلملمة (شماغ ) زوجها من حين لاخر ليبدو بابهى حلة وقلبها يخفق شوقا ولهفة. بينما يفكر الاخوة بكيفية استقباله لهم وهل سيعرفهم و بما سيحضره لهم من هدايا (الغربة ) ليفاخروا به وبها رفاق الحي
وصلوا قاعة الانتظار ...يضع الاب يديه خلف ظهره ماشيا جيئة وذهابا وعينييه صوب مخرج القادمين يسال لاكثر من مرة عن طائرة (روما ) ويجيبه موظف الاستقبال بانها ستصل في موعدها ...
ها قد اطل .. ينظر اليهم ببرود وابتسامة مزيفة ..يعانقه اباه بحرارة وقبل لا تكاد تفتر من برودة مشاعره ,تعانقه امه تشتم رائحته تبلل دموعها معطفه ..تتجه الى زوجته الشقراء تقبلها تتأمل ملامحها وتقبلها من جديد بينما تكتفي الاخرى باطلاق ابتسامتها وهز رأسها .. يكمل الاخرون الترحيب بمشاعر شوق جياشة ويقابلون بابتسامات (بلاستيكية )
تنطلق حافلة جارهم تحمل الجميع ..يبدأ العائد بالحديث عن سحر بلاد غربته وكيف ان كل شيء هناك افضل بجميع المقاييس من هنا ..يتحدث عن زوجته (ستيفانيا ) وكيف التقى بها بالجامعة واحبته واحبها ..الى ان قاطعه اخوه سائلا (بتعرف تحجي عربي؟ ) فرد عليه: بعض الكلمات فقط وقام بترجمة ما قيل على الفور ...
وصلوا الى منزلهم واثناء نزولهم تجمع حشد من اهالي الحي لرؤية (الدكتور ) وزوجته الشقراء ..بعد سلام الجميع دخلوا الى المنزل...
ينظر الى سقف المنزل المتهالك ..الى المروحة السقفية ..ليجد حيوانهم الاليف (ابو بريص ) ما زال له مكان في زاوية السقف ..يجول بنظره في ارجاء المنزل فيرى الكثير من (الفرشات ) الاسفنجية الرقيقة ..الكثير من الاحذية عند المدخل..الكثير من الاشياء الريفية القديمة ...الكثير الكثير من معالم الفقر ...فلا يعجبه المنظر ..
تم تحضير طعام العشاء ..فقد حضرت له امه (المقلوبة ) التي يحبها ..لكنه ياكل ببطء وامتعاض والحال هي الحال بالنسبة (لستيفانيا ) التي سالتها امه عن رأيها بطبخها وهل اعجبها الطعام العربي ؟ الا انها بعد الترجمة نظرت اليها نظرة ازدراء وفوقية دون ان تنطق \"\"\"
دخل الى غرفته مع (ستيفانيا ) صوت شجار بالكلمات غير المفهومة للاخرين ..يخرج من غرفته يسأله ابوه عما يجري ويجيب شاتما طريقة عيشهم وبانه سيرحل في الغد عنهم ويصفهم بالمتخلفين \" ويجيبه ابوه بلطف بانه وخلال مدة سيتاقلم هو و زوجته على طريقة العيش هنا وبما ان شهادته معه ستكون حياته افضل .. ويجيبه متلعثما بانه لا يستطيع ان يعيش هنا ..ويدخل الى غرفته من جديد ويقفلها وصوت (ستيفانيا ) الغاضب ما زال عاليا ..
يتحدث ابوه مع امه عن حاله كيف تغير ؟ كيف اصبح خاويا من المشاعر ؟ فهذه الليلة الاولى له ...يتذكر ابوه عمله (حراث) في ارض الاخرين ليؤمن له احتياجاته في الغربة ..يتذكر عمله اجيرا تحت الطلب ...حتى زكاة الفطر التي كان ياخذها من المحسنين كان يرسلها (حوالة ) له .يتذكر كيف انهم قد صغروا (لقمهم ) ليشبع والفوا البرد ليدفأ وتوسدوا التعاسة ليهنأ ...ويتذكر كبر سعادته حين يقول له اهل الحي بان ابن( الحراث ) سيصبح طبيبا .. ليعود و يسأل زوجته اهذا ابني ؟ اهذا (الدكتور)؟ فلا تجيبه الا بالدموع والحسرة التي تملأ قلبها \"\"
في الصباح ..نهض الابن باكرا لملم حقائبه ابى ان يتناول افطاره معهم ..ودعهم بمشاعر خجولة وعند باب المنزل طلب منه ابوه ان يستدعي جارهم ليوصله بحافلته الا انه ابى ...
بعد الرحيل ..اتصل الاب بصديق ابنه في الغربة وسأله عن حال ابنه ولما تغير ...فشهادته معه وسيكون وضعه افضل لو انتظر فهو (دكتور ) \"\" اجابه صديق ابنه عن اي (دكتور )تتحدث فهو منذ السنة الاولى له في الجامعة ومنذ التقى بالنادلة (ستيفانيا) قد قطع دراسته وعمل معها (بالملهى الليلي )
صمت الاب واطلق زفير حسرته ..اغلق سماعة الهاتف ...مضى حائرا مقهورا ..يتذكر ابنه عندما كان طفلا ...يتذكر طيبته ورقته..يتذكر يوم وداعه الاول وكيف انه كان متحفزا ومعاهدا اياه بان يعود له (دكتورا ) ... يتمتم مع نفسه ماذا فعلت لك الغربة يا ولدي ؟ تتساقط دموعه جمرا على وجنتيه ..ويمسحها( بكم دشداشته ) وتعود لتتساقط من جديد ..يذهب الى زوجته ويخبرها ويجبرها ان لا تغضب (عليه ) ..
في صباح اليوم التالي يرن جرس الهاتف ..ترفع الام السماعة ...تسمع صوت ابنها الباكي النادم ..طالبا منهم مسامحته عما بدر منه ..تبتسم الام بل ان جبالا عن صدرها قد ازيلت لمجرد سماع صوته وطلبه منها ان تسامحه وان ترضى عنه ...يستأذن الابن ان يتكلم مع ابيه ...تهرول الام الى غرفته ...تحاول ايقاظه من نومه العميق ...فلا يستيقظ ...تحاول من جديد ..دون امل بان ينهض...تصرخ باعلى صوتها ناعية زوجها الذي يأبى ان يجيب على من ينتنظره على الهاتف ..فقد توفي مقهورا بعد ان اغتيلت جميع احلامه \"\"