حمزة عبدالمطلب المحيسن
في صغرنا وأيام " الحارة " التي نشانا فيها كانت " البراكية " في أسقفها المتنوعة التي قد تكون من ألواح " الزينكو " أو الخشب كانت في كل شتاء على موعد لعزف اجمل الألحان التي تعزفها حبات المطر المنهمر ، ومع أن " البراكيات " التي كانت موجودة في الحارة تغطى أسقفها " بالشوادر " أو بالأغطية البلاستيكية الملونة فإن ذلك في أغلب الأحيان لا يمكن أن يمنع " الدلف " و " الدلف " هو مصطلح شعبي يطلق على حالة تسرب المياه من السقف إلى داخل المنزل ، وهي الحالة التي كنت في صغري أشفق فيها على والدتي – أطال الله – في عمرها كونها كانت تستجمع كل الاواني و " الطناجر " الخاصة بالطهي لتكافح وتضعها بحرفية بالغة امام الثقوب التي تتسرب منها مياه الامطار حتى لا تتساقط على رؤوسنا أو على تلك " البسط الصوفية " التي نسجتها لها جدتي – رحمها الله – في أيام زواجها والتي كانت تزين أرضية " البراكية " المصقولة بالإسمنت الناعم وتغطي ما فيها من حفر وثقوب .
وحتى نشعر بالدفء انا وأخواني كان حال نومنا في " البراكية " كحال كل من سكن " البراكيات " في " الحارة " بشكل جماعي فكان كل ثلاث ينامون على فراشين ويتقاسمون غطاء واحد ،وكانت قمة " النذالة البريئة " بالنسبة إلينا في أثناء النوم ان يباغتنا أحدهم مداعبا بأن يقوم بوضع أطراف أصابع قدمه الباردة على أرجلنا الساخنة التي اخذت منا وقتا طويلا حتى تبقى دافئة ، لتنشب معركة طويلة فيما بيننا ولنفقد فيها الدفء الذي كوناه بتماس أجسادنا مع بعضها البعض وبخاصة إن ميثاق الشرف الذي كان بيننا قبل النوم يلزمنا بعدم تحريك أجسامنا أو نترك فسحة بين أجسامنا أثناء النوم حتى لا ينسل البرد بين أجسامنا المتلاصقة ، ومع ذلك كنت أخالف هذا الميثاق بالخروج خلسة من بينهم لكي أنام خلف والدي – رحمه الله – وألصق ظهري بجسدة وأداعب بيدي وجهه الطاهر وأتنسم بشم رائحة عرقه الزكية التي ما زلت أفتقدها إلى الآن ......!
ما أجمل ذلك الشتاء الذي عشناه في " البراكيات " ففي السمر كانت والدتي تقتل برودته القاسية " بصوبات الكاز " الدافئة وتجود علينا بالخبز المحمص على " الصوبة " لتصنع منه " فتة شاي " أو " ساندويشة " زيت بلدي مع سكر أو زعتر، ولكي تحمي أجسادنا من الزكام ونزلات البرد تسقينا كأسا" من " اليانسون " او " الميرمية" الدافئ بدفء قلبها وحنوها .....!
" البراكية " يا سادتي إذا كان أجدادي قد أسموها بهذا الأسم تيمنا" بالجلوس " او كناية عن "البروك " فيها ، فأنا أعتبرها أيضا بأنها قريبة من البركة بل هي البركة التي فقدناها في زماننا هذا ، وما نعانيه اليوم من إنحباس للمطر ما هو إلا حصيلة سواد الدنيا التي أخذت ذلك النقاء والصفاء من قلوبنا ،وقبل الحديت عن التغيرات المناخية التي نعيشها بفعل ما لوثته أيادينا في البيئة التي نعيش وأدى إلى إنحباس المطر علينا أن نتذكر ما خالط نفوسنا أيضا من تلوث أحدثناه وأكسبناه لقلوبنا التي كانت دافئة بحب الخير واكتست بحب الدنيا وما فيها وأنستنا معنى القناعة في رزقنا وعيشنا فنزعت البركة التي كانت فيما مضى عنوان للمحبة التي عشناها وسكنت معنا في " براكياتنا " ، فلم يعد لحياتنا ذلك الدفء الجميل حتى ولو عشنا كما نعيش الآن في البيوت الرصينة أو تلك القصور الراقية والمجهزة بكافة وسائل التدفئة المركزية ولاننا أيضا وهو السبب الأهم قد تقاعسنا عن عبادة ربنا حق عبادته فغابت عنا الألفة والسكينة التي تروض النفس وتزكيها وبات حالنا غلاء وجوع وشعور بالخوف ، إن ما نعانيه اليوم من إنحباس للمطر يحتم علينا أن نحاسب أنفسنا كي تعود لدفئها ونقاءها حتى تعود البركة في حياتنا وتتبرك فيها سماءنا وغيومها وتكون كفيلة بإعادة صوت المطر المنهمر تماما كالذي كان يسقط على أسقف بيوتنا و"براكياتنا " ، راجيا من الله القدير ان يرحمنا ويسقينا الغيث ولا يجعلنا من المحرومين إنه بنا رؤوف حليم .....