يتناقل الأكاديميون الأردنيون باعتزاز واقعة حصلت قبل سنوات مفادها أنه وبعد انتهاء مراسم حفل تخريج في جامعة تقع خارج العاصمة، التفتت جهة عليا، نحو رئيس الجامعة المعنية واستفسرت منه على مسمع من المحيطين عن الراتب الذي يتقاضاه الأستاذ الجامعي، وحين تلقت الإجابة توجهت الجهة إلى مسؤول كبير في الدولة وقالت كلمتين فحسب: هذا قليل. وفهمت الرسالة في حينه، وكانت الاستجابة لمراميها خلال أيام.
ولدى معظم الأكاديميين قناعة بأنَّ ثمة قصة مشابهة، بالأطراف نفسها، وراء كل خطوة اتخذتها الجهات الحكومية لتحسين أوضاع الأكاديميين.
وفي المقابل، هناك قصص أخرى مخالفة يمكن أن تروى. فقبل بضع سنوات أنجز مجلس التعليم العالي مشروع تعديلات على أنظمة الهيئة التدريسية والعاملين في الجامعات الرسمية يتم بمقتضاها تحسين أوضاعهم، وبنسب لا تتجاوز خمسة عشر بالمائة من الرواتب.
وحين قدم المشروع لجهة الإقرار التنفيذية، تم الإيعاز من مسؤول كبير لديوان التشريع (الذي أقر التعديلات) بأن احتفظوا بالتعديلات لحين الطلب.
وتصادف أن سأل أحد الإعلاميين المسؤول الكبير صاحب الإيعاز عن موعد الإفراج عما أوعز بحفظه فكانت إجابته التي نشرتها جميع الصحف والمواقع الإلكترونية آنذاك وكانت إجابة عصبية: أنا عندي الآن مشكلة أهم، عندي مشكلة عمال المياومات، فما الأهم بنظركم (يقصد الإعلاميين) مشكلة عمال المياومات أم مشكلة رواتب "دكاترة" الجامعات؟
الواقعتان أعلاه تلخصان قصة الأكاديميين مع المسؤولين من أصحاب القرار التنفيذي في هذا الشأن، وهي باختصار المماطلة والتسويف وأحياناً الرفض القاطع لأي مسعى يستهدف رفع مستوى الحياة لهذا القطاع الذي يفخر به بلدنا، وبذل في سبيل إعداده الغالي والثمين. حياة كريمة تنعكس على العملية الأكاديمية، بحثا وتدريسا، وتصون للأردن بعامة هذا الذخر الاستراتيجي، وتحفظ لجامعاتنا مكانتها المتقدمة بين جامعات المنطقة.ولحسن الحظ، كانت المبادرات التي تأتي من الجهة السيادية العليا في وطننا تعيد الأمور إلى نصابها، وتحفظ للأردن ذخره الاستراتيجي من العلماء والباحثين بمبادرات سخيّة سيظلّ العاملون في الجامعات الأردنية يذكرونها على مدى الأيام. ولعل من الطريف أن نشير إلى أن لقصة عمال المياومات والأكاديميين بقية، فحين شعر هذا المسؤول أنه على وشك المغادرة رأى أن يقطع الطريق على مشروع التعديلات.
وحتى لا يجيزه من سيخلفه، مرر بسرعة قراراً برفع رواتب الأكاديميين بنسبة تقل كثيرا عن نصف ما تضمنه مشروع النظام السابق. وظل الحال على ما هو عليه إلى الآن رغم مرور سنوات عديدة شهدت زيادات لكل قطاعات العاملين ما عدا الأكاديميين. وعلى الرغم من كون الأكاديميين ضعافا حين يتعلق الأمر بالسعي للمكتسبات المالية، فلا بأس من إيراد الحقائق الآتية:
أولاً: كشأن معظم بلاد العالم كان ثمة تقارب بين رواتب الأكاديميين لدينا ورواتب القضاة، فاختفى هذا التقارب الآن، وحلت محله فجوة آخذة بالاتساع.
ثانياً: باتت رواتب الأكاديميين في جامعاتنا الرسمية الآن هي الأقل بين منظومة الدول المحيطة بما فيها الدول غير النفطية (وربما نستثني الشقيقة الشمالية)؛ ففي مصر مثلاً أصبح راتب الأستاذ بآخر تعديل خمسة عشر ألف جنيه شهرياً، أي حوالي ثلاثة آلاف دولار، وفي لبنان وضع مشابه، وكذلك الأمر في تونس والضفة الغربية.
ثالثا: إن سياسة " التطنيش" (ولا أجد تعبيراً أفضل) التي تقابل بها الدعوات لإعادة النظر بالأوضاع الحالية، باتت الآن تعطي نتائج تكاد تكون كارثية على ذخيرة الجامعات الرسمية من أصحاب الكفاءات الحقيقية. وما يتم تعويضه من المتوافر في السوق الآن ليس في أفضل الأحوال- وفي الأغلب الأعم- سوى مؤهلات غير متمرسة وشهادات حولها جدل.
رابعاً: لقد بات كل أكاديمي أردني اليوم يبحث عن فرصته في توفير حياة كريمة تجنبه العوز (في ضوء استعار الغلاء، وبالمناسبة فإن كل أكاديمي تقريباً لديه سيارة) وتمكنه من القيام بعمله كما ينبغي له القيام به، ولكن وفي ضوء " التطنيش" الذي كاد يتحول إلى تطفيش، بحسن نية بطبيعة الحال، فقد ترك المئات العمل في الجامعات الرسمية، أما من تبقى فإن كل واحد فيهم ليس أكثر من مشروع هجرة. مشروع هجرة إلى الخارج، أو إلى الداخل؛ جامعة خاصة، أو مدرسة ثانوية لأبناء النخبة، واسألوا عن الرواتب في هذه المدارس الثانوية، وقارنوها، من فضلكم، بسلم الرواتب في الجامعات الرسمية.
* استاذ النقد الأدبي في جامعة اليرموك
د. نبيل حداد