لم يكن الخطأ الأول الذي يتحمله مدير الأمن العام مسؤوليته المباشرة أو غير المباشرة عن البيان الرسمي المتعجل والمشوه والمليء بالمغالطات حول مقتل الشهيد الشاب سليمان خريسات، عندما أنكر مسؤولية إطلاق النار عليه من قبل دورية أمنية في السلط الأربعاء الفائت، وصور الحادثة المؤسفة بشكل مغاير للحقيقة، وتبين بالتحقيق الرسمي والمخبري بعد ساعات فقط أنها عملية قتل بدم بارد وغير مبرر وعن قرب، مما أدى إلى اختراق الرصاصة الآثمة لرأس الشهيد وخروجها مباشرة من الجهة الأخرى، علما بأن الشاب لم يكن مطلوبا أمنيا ولم يكن مسلحا ولم يقاوم الدورية أو يهدد سلامة أفرادها، وكل جريمته أن سائق السيارة التي تقله لم يمتثل بالوقوف.
لقد كان هذا البيان الرسمي الخاطئ هو الشرارة التي أشعلت المواجهات بين شباب مدينة السلط وقوات الدرك إضافة إلى التعامل الخشن والمسبق والمباغت لهذه القوات ضد ذوي الشهيد في قسم العناية الحثيثة في مستشفى السلط لحظة تلقي الخبر المفجع، والاستخدام المفرط للقوة والقنابل الدخانية التي تضرر منها الآمنون في بيوتهم في المناطق المحيطة بساحة المواجهات أكثر من المتصدين لها أنفسهم.
ولو أن أخطاء الأمن العام التي يتحملها مديره توقفت عند ذلك لكان الأمر أهون، إذ إن الجهود التي قام بها محافظ البلقاء بصفته الحاكم الإداري بالتعاون مع نواب السلط ووجهاء عشيرة الشهيد الخريسات أدت إلى وقف الأحداث وانفراج الأزمة مؤقتا، عندما وافقت عشيرة الشهيد على عطوة أمنية باعتراف جهاز الأمن العام بمسؤوليته عن إطلاق النار على الشهيد لمدة ثلاثة أيام وثلث، يعقبها مباشرة الإفصاح الرسمي عن هوية القاتل ثم السير مباشرة بإجراءات عطوة عشائرية تسعى إليها عشيرة الجاني دون تدخل في مجريات المحاكمة القضائية العادلة والقانونية، وذلك حفظا للحقوق وحقنا للدماء وحفاظا على الأمن والسلم المجتمعي، ومراعاة لكل الأعراف والعادات العشائرية المتأصلة في مجتمعنا.
لقد أخطأ مدير الأمن العام –وهو الرجل الذي نحترم منصبه وشخصه- خطأ تاريخيا عندما تنصل يوم الثلاثاء عقب انتهاء مدة العطوة الأمنية سالفة الذكر والتي أبرمها محافظ البلقاء بإشراف وموافقة وزير الداخلية من بنود هذه العطوة وأعلن بأنه لا يتحمل \"خطأ المحافظ\" بعقدها، مستغلا استقالة الحكومة والرحيل المتوقع لوزير داخليتها وقبل الإعلان عن الحكومة الجديدة، وكأننا لا نعيش في دولة المؤسسات والقانون، وكأن الأردن في اليومين الماضيين عاد إلى الأحكام العرفية وأصبح يأتمر بأمر الحاكم العسكري، وكأن التزامات الأجهزة الرسمية المكتوبة والموثقة والمشهود عليها حبر على ورق غير مصقول ولا مروس ولا ممهور بالختم ولا الشعار الرسمي، خادشا بذلك المكانة والاحترام المحلي والدولي الذي يتمتع به جهاز الحكم الإداري الأردني، ونازعا ثقة المواطن من التزامات الحكام الإداريين الذين يمثلون هيبة الدولة في مناطقهم ومحافظاتهم.
لقد أعلنها مدير الأمن العام صراحة بلاءات ثلاث: \"لا\" تجديد للعطوة الأمنية، و\"لا\" إفصاح عن هوية القاتل.. ليضيع دم الشهيد بين القبائل، و\"لا\" عطوة عشائرية.. تحقن دماء الناس وتحفظ الحقوق وتهدئ الخواطر.
ولقد ترافق هذا الإعلان \"العرفي\" من قبل مدير الأمن العام مع انتشار كثيف لقوات الدرك على مداخل مدينة السلط ونقاطها الرئيسية وعمل مقصات أمنية وتحليق طائرات عمودية، بشكل أثار حفيظة أهل السلط الذين شعروا أنهم محاصرون ومهددون ومستفزون ومضغوطون للقبول بشروط مجحفة تفرض عليهم من قبل مدير الأمن العام الذي بات همه الوحيد المعلن \"حفظ هيبة جهاز الأمن العام وحماية منتسبيه\"، وكأن هذا الهم المشروع يتناقض مع الهدف الأساسي الذي أنشئ من أجله ذلك الجهاز الأمني وهو \"حماية أمن المواطن والحفاظ على حياته وممتلكاته\"، وقد كان هذا الانتشار الأمني خطأ استراتيجيا آخر وقع فيه مدير الأمن العام خصوصا في أجواء التفاوض تحت الوعيد والتهديد.
ثم بعد ذلك تم الإعلان مساء الثلاثاء وفي ظل هذه الأجواء المتوترة والمحمومة عن وفاة الشاب سليمان خريسات \"رسميا\" –وكأنه كان متوفى بشكل غير رسمي إلى أن تم تهيئة الظروف \"الأمنية\" للإعلان عن وفاته- لتبادر عشيرته وذووه برفض استلام جثمانه ودفنه ما لم يتم تجديد العطوة الأمنية، رغم كل الضغوط المؤسفة التي مارسها مدير جهاز الأمن العام.
وهنا كانت برقيات قد أرسلت إلى جلالة الملك حفظه الله والذي أوعز لمستشاريه العشائريين بالتدخل وتجاوز \"لاءات\" مدير الأمن العام وعقد عطوة أمنية \"إمهال\" لمدة شهرين مع عشيرة الشهيد وبحضور نواب السلط ووجهائها في قرية كفرهودا وفي ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء الحزين.
لقد أتاحت هذه العطوة الأمنية الجديدة –على ما اعتورها من تغييب تحديد هوية القاتل- أن يصار إلى البدء بإجراءات استلام جثمان الشهيد ودفنه وتهدئة الأوضاع مؤقتا خصوصا مع بدء انسحاب تدريجي لقوات الدرك التي تحاصر المدينة.
ولكن الأسئلة الذي يترقب إجابتها الكثيرون: ماذا سوف يحدث بعد شهرين إذا ما استمر مدير الأمن العام في رفض الإفصاح عن هوية القاتل والسير بإجراءات عطوة عشائرية بين عشيرتي الجاني والمجني عليه؟! هل الستون يوما كفيلة بنسيان الدم المراق وبرودة أجواء الشتاء ستعمل على تجميدها؟! هل سيحقق مدير الأمن العام بذلك مصلحة عامة للوطن أم مصلحة ضيقة قصيرة النظر لجهاز بدأ بعض أفراده بالتغول على صلاحياتهم في حماية الوطن والمواطن إلى الإضرار بسمعة الوطن والاستهتار بحياة المواطن؟! ألن يبقى لهذه الحادثة وشبيهاتها في الطفيلة وأم السماق قبل أشهر وغيرها جروح عميقة غائرة في وجدان المواطن الأردني يمكن أن تنفجر دماؤها سائلة من جديد في أية لحظة ؟!
قبل عشرين عاما أطلقت دورية أمنية النار على رأس شاب جامعي يدعى \"أحمد مطر\" في ضاحية الأمير حسن بالنزهة لأنه لم يمتثل بالوقوف وتبين فيما بعد أن البلاغ خاطئ، ولم يتم التصريح باسم القاتل رغم أنه معروف لذوي القتيل، ولم تعقد عطوة عشائرية وفق الأعراف والأصول المتبعة، واليوم التاريخ يكرر نفسه في \"كفرهودا\" بالسلط، فهل يعي مدير الأمن العام دروس التاريخ ويصحح أخطاءه؟!
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات
hishamkhraisat@gmail.com