نفس المشهد يتكرر كل مرة, تنطلق صيحات زامور سيارة الإسعاف وتلمع إضاءاتها الماتهبة التي لا تخفى على الصغير قبل الكبير, و يتكرر نفس الطبع الرديء لبعض السائقين الذين صادفت سيارة الإسعاف المسكينة مركباتهم فأخذت تشق طريقها بينهم.
سيارة سائقها اعتبر أن الأمر لا يعنيه, تتوسل إليه سيارة الإسعاف أن يفتح لها الطريق وهو لا يأبه, أظن أن صاحبنا يشك بوجود مريض في السيارة, وإن وُجِد فإن حالته ليست حرجة, ربما كبسة الزامور \" مدقرة \", أنا لا يعنيني, أبقى في طريقي فهو أسلم لي, ورحم الله من قال: من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه .
السائق الآخر, اعتبر أن فرصة العمر قد لاحت وآن الأوان أن يحطم رقم قياسي ولو مرة واحدة في حياته, وقد لاحت الفرصة أخيراً, سيسابق سيارة الإسعاف ويجعل جميع الناس بما فيهم سائق الإسعاف وأهل المريض يطأطئون رؤوسهم إعجاباً بهذا البطل \"السَّبِيق\". فإذا تجاوزت سيارة الإسعاف بقية السيارات من جهة اليسار, تجاوز أخونا بقية السيارات من اليمين, ولئن فتح أحدهم فرجة للإسعاف, أسعفه الحظ وعبر من هذه الفرجة وهكذا، مشهد بمنتهى القرف .
وآخر, هو ليس كسابقه, لا يريد أن يسابق, فقد فعلها كثيراً وحطم الأرقام من زمان, لكن دوره أصبح يؤهله لأن يفتح طريقا لسيارة الإسعاف, تماماً كسفينة كاسحات الجليد التي تزيح الجليد يميناً ويساراً حتى تنساب سيارة الإسعاف لكن بالطبع تبقى خلفه، و السبب ببساطة \" لأن العين لا تعلو على الحاجب\" .
وآخر يسير خلف سيارة الإسعاف ملاصقاً لمؤخرتها, فإن عبرت سيارة الإسعاف من فراغ بين السيارات عبر معها, وإن تجاوزت إشارة حمراء تجاوز معها وإن... وإن.... وإن ,, تكاد تقتنع أن هذه الحركات لا يبررها إلا أن يكون سائق هذه السيارة هو الطبيب أو الجراح الخاص للمريض المسكين.
أنا أُقَدر – ومعي معظم السائقين - ذلك الذي يحاول أن يطبق التعليمات بأن بنحاز إلى المسرب اليمين و كله أمل أن ينحاز الجميع مثله فتنساب سيارة الإسعاف بسهولة مستخدمة مسرب اليسار الذي سيخلوا بالتأكيد , لكنه يواجه بآخر الأصناف من السائقين \"إياهم\", والذي يأبى وبكل ما استطاع من \"تياسة\" أن يسمح لأحد أن يغلق أو يعطل عليه مسربه, شعاره \" ما عاش إللي يأخذ مكاني \" حتى لو كان الذي في السيارة أبي, فطريقي حقي وملكي أنا, أورثه من بعدي...
أتمنى أن يعيرنا التلفزيون الأردني أحد \"كمراته\", فيزيحها عن مذيعة ملونة ويضعها فوق سيارة إسعاف, حتى يتمكن من تصوير هذه الأصناف الخمسة, أو قل هذه الأوبئة الخمسة.
كان لي الشرف أن أتجند في الدفاع المدني أثناء خدمة العلم وأنا في ريعان الشباب, وكان المشهد الذي لا أنساه هو حين يقرع جرس التنبيه في حجرة رجال الإنقاذ, فتراهم يتناثرون من حجرتهم تناثر حبات البشار ويتهافتون بلمح البصر إلى سيارة الإسعاف يسابقون الريح... ثانيتان أو أكثر، لا مجال للأكثر, فحياة المريض هامة والثواني غالية, ومع ذلك تجد الأصناف الخمسة تمارس لؤمها, فلا ثوان ولا دقائق, وحسبنا الله ونعم الوكيل.