اليوم، وبعد مرور اربعون عاما على استشهاد وصفي التلّ، مازلنا نتعامل مع الراحل الكبير بالكثير الكثير من المشاعر والقليل جدا من الفهم، ولو فهمناه أكثر لأحببناه أكثر، ولتمسّكنا بمنهجه ومبادئه أكثر فأكثر.
وصفي التلّ، هو، أوّلا، مقاتل شديد البأس والعزم، في الدفاع عن الأردن، وفي الدفاع عن فلسطين. وهو مثقف متميّز، نذر ثقافته وفكره لخدمة بلاده ونهضتها. وهو رجل دولة، أخلص في ولائه لقيادته، وترجم ولاءه وانتماءه عملا وجهدا وأداء متصلا لخدمة الأردن الغالي ونهضته وتقدّمه.
عندما جاء وصفي التل إلى الحكم، مطلع الستينيّات من القرن الفائت، كان يجسّد، بحق، جيلا جديدا، من الساسة الأردنيين، بما يمثل استمراريّة لتجربة الشهيد هزاع المجالي، التي سعت لإنهائها القنابلُ التي دُسّت في أدراج مكتبه في مبنى رئاسة الوزراء، وأصرّ الملك الراحل الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، على استمراريّة التجربة، والرهان الواثق على الجيل المثقف من أبناء الأردن، وتجديد الحياة السياسيّة.
جنات الخلد مثواك يا شهيد الوطن فقد سطرت بدمائك ورجولتك اروع معاني التضحية والفداء ولقد ذكرتك في هذه الايام ولعلي لم انساك ابدا ولكن احببت ان اضع القارىء الكريم في صورة هي اكثر ما نحتاج في هذه الايام استوحيتها من حادثة حقيقية حصلت مع شهيدنا البطل وصفي التل رحمه الله.
قبل اكثر من عشر سنين او سنوات كنت في زيارة لقريب زوجتي ابو خالد اطال الله في عمره ـ هو من لواء عي في الكرك الابية ــ دخلت بيته فوجدت صورة وصفي التل في بيته وقد احاطها بنوع عجيب من التقدير والاحترام فسألته عن سر محبته لشهيدنا البطل فأخبرني قصة هذا الحب فما زادتني تلك القصة الا محبة لروحه الطاهرة.
ابو خالد في نهاية الستينات وعندما كان وصفي التل رئيسا للوزرا ء كان ابو خالد شرطي حديث العهد في الدفاع المدني ,يقول ابو خالد جائنا امر بنقل صهريج ماء لمنزل رئيس الوزراء في صويلح فذهبت انا ومعي سائق الصهريج الى منزل دولته وعند وصولنا بوابة المنزل كان هناك رجل يحرث حديقة المنزل على دابة(قديشة) وخلفه رجل يلبس جزمة سوداء جلد (ماغيرها ايام الشتاء) يزرع خلف الحراث (يلقط البذور أي يرميها في التلم) فلما شاهدنا اقبل لاستقبالنا بجزمته السوداء فاذا به دولة وصفي التل رئيس الوزراء هو من يزرع ارضه خلف الحراث فرحب بنا ايما ترحيب وكأننا أعز ضيوف ولما كان موعد غداء لم يسمح لنا بالمغادره الابعد تناول الغداء معه وحاولنا الاعتذار الا انه وبكرم ابن الفلاح الاصيل اصر على بقائنا, وبعد ان ضيفنا الشاي بنفسه اعتذر منا وذهب لاكمال عمله خلف الحراث - والحديث كله في حديقة المنزل- وبعد فترة قصيرة دخل الى المنزل وخرج حاملا سدر الاكل فركضت لاحمل عن دولته فقال لا والله انتم ضيوف !!!!!وكان الطعام عبارة عن منسف ومعه ضمة كبيرة من ورق البصل الاخضر فجلسنا اربعتنا الى مائدة الطعام فقال رحمه الله مخاطبا ابو خالد وزميله يا بني هذا المنسف غدائكم لانكم ضيوف عندي ثم اخذ ورقة البصل ولفها الى خبزة وغمسها باللبن الرائب وقال لنا ياشباب هاي الاكلة اسمها المزنرة أي ورق البصل ملفوف على الخبز ومغطوط با للبن فتناولنا غداءنا على مائدة دولة الرئيس ورجعنا ونحن نشعر بالفخر والسعادة لمثل هكذا انسان. انتهت قصة ابوخالد ولن اعلق على ما فيها فأبوخالد لا يزال حيا يرزق اطال الله في عمره ولم ارد ان تبقى هذه القصة حبيسة بعض الاشخاص وحبيت ان تصل لكل اردني.
فما احوجنا في هذه الايام الى حكومة ان يكون كل وزرائها حراثين؟؟؟؟؟؟
رحل الشهيد ولم يترك سوى فوتيكه الكاكي وبسطاره وشماغه المهدب بالصبر والفقر .. لم يكن يمتلك ربطات عنق »كريستيان ديوور« ... ولا بدلات BOSS
كان قلمه (Bic) بلون أخضر ، يؤشر به على مظالم الفقراء لا على صرف مياومات المسؤولين والوزراء !
ذهـب وصـفـي نـقـيـا ، ابـيـا .. وصـعـدت روحـه بـريـئـة مـن كـل شيء دنيوي ..
فالى جنات الخلد يا شهيد الوطن