ما شاهدته ظهر أول أمس الخميس في مقبرة إربد الإسلامية شيء يُثلج الصدر رغم رائحة الموت التي تعم المكان والعبرات التي غمرت وجوه ذوي الراحلين \" يرحمهم الله \" ، وعلى الرغم من وحشة المكان ، إلاّ أن هناك مآثر وعبر لا زالت تغمر قلب إنسان ، ليس له مع الراحلين صلةً غير أنه يبحث عن الأجر والثواب من الرب الرحمن ..!!
ليست قصة من الخيال ، بل واقع عايشته يوم أول أمس الخميس ونسيت دون إدراكٍ الأموات والدفان ، حيث كنت وشقيقي أول الواصلين للمكان للمشاركة بعزاء احد الأصدقاء توفت والدته يرحمها الله ، وبينما كنا ننتظر وصول الجثمان إذ بشيخ جليل ذو هيبة ووقار وجهه يُشعُ نوراً ، يخرج من سيارته التي أوقفها بعيداً ويحملُ بكلتا يديه صندوقان مليئان بـ \" كاسات ماء \" ، شدّ انتباهي كثيراً ولم أعي لماذا .؟؟
للوهلة الأولى اعتقدت أنه قد يكون من أهل المرحومين أو من الجيران ، أخذت عيناي ترقبه من بعيد وتسترق النظر لتحركاته خِلسةً لترى ماذا يدور بخلد هذا الشيخ الذي عمّ عِطره الطيب أرجاء المكان ..!!
وصلت الجثامين وكانت ثلاثة ، ومصادفةً عرفت أن الجثامين تعود لثلاثة نساء كلُ واحدة منهن تحمل جنسية مختلفة عن الأخرى \" أردنية ولبنانية وسورية \" حينها استذكرت الآية الكريمة التي قال فيها رب العزة ( وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تَموتُُ ) صدق الله العظيم ...!!
وبينما كان المشيعون يهمون برفع النعوش على الأكتاف ، حمِلَ الشيخ الجليل صاحب الهيبة و الوقار واحدة من الصناديق وبدا يوزع الماء على المكلومين والمجبورين والمشيعيين والمواسين ذهاباً وإياباً رغم شيخوخته ليروي ضمأهم كنوع من المواساة بأسلوب اجلُّ وأرفع مما يقوم به أولئك الذين يقدمون الطعام للمفاخرة والمباهاة على أعين الناس ..!!
وللغرابة في مكان أنه لم يكن بين المشيعين من يقوم بالتلقين فوق رأس الميت ، فاستنجدَ أهل المتوفى بهذا الشيخ الذي لم يتوانى عن الإستجابة لمطلبهم ، وبصوتٍ خافت جميل ثمَّ علا ذهبَ يقرأ بعضاً من آياتِ الله الكريمة يُذكر بها الأحياء بمواعظ الموت قبل أن يدعُ للمتوفى بكلماتٍ رجت الأرض تحت أقدام المشيعين وأجهشت قلوب المجبورين بالبكاء ..!!
لله درك أيها الشيخ الجليل ، لقد قدمت أجمل صور المواساة وأنبل شعور ثمَّ غادرت مسرعاً حتى لا نتمكن من معرفة اسمك أو كنيتك واحتفظت لنفسك بما قدمته يداك الطاهرة طيّ الكتمان وكيّ لا تدري يُسراك ما قدمت يُمناك مبتغياً بذلك الأجر والثواب من عند الله جل وعلا ، ولم يكن إطراء البشر من أولوياتك ولا غايتك بل مرضاة الله كانت مسعاك ومُبتغاك ..!!
ندعوا الله سبحانه وتعالى جميعاً أن يُمتعك ايها الفاضل بدوام الصحة والعافية وأن يهبنا بعضاً من حُسنُك وطيبك وبعضاً من جميل صنعك حتى نلقى به وجه الله الكريم ..!!
سالم عكور