بداية أصدقكم القول أنني لم أستطع النوم ليلة قراءتي للخبر المفزع والمقذع والذي هزني أكثر مما يهزني زلزال مدمر أو إعلان حرب، ألا وهو خبر \"حفل للشواذ جنسيا في شارع مكة\".
كم يعز على كل أردني وعربي ومسلم أن يقع هذا الحدث الفظيع بشكل \"شبه علني\" في عاصمة الهاشميين الأبرار وقلعة الثورة العربية الكبرى عمان العروبة والإسلام أرض الحشد والرباط وحد حوض النبي الهاشمي صلى الله عليه وآله وسلم في شارع يدعى شارع \"مكة\" هو من شوارع \"عمّان\" الأكثر عددا في البارات والنوادي الليلية!
إن المصيبة في هذه المصيبة عدة مصائب: أولها العلانية والجرأة والتحدي للمجتمع وقيمه، وثانيها اللامبالاة والاستهتار بالنظام والقانون وهيبة الأمن، وثالثها النعومة والليونة والإنسانية الزائدة عن حدها وفي غير موضعها التي تعامل بها رجال الأمن المداهمين لوكر الرذيلة هذا إلى حد الاستمرار في التفاوض مع الشواذ لمدة ساعة دون استعمال أي قدر من الخشونة عدا احتجاز هوياتهم بعضا من الوقت ثم إعادتها إليهم بكل احترام، ورابعها الإيواء \"إلى ركن شديد\" يتمثل في صرخات الشباب الشواذ يتحدون رجال الأمن \"ما بتعرف احنا ولاد مين؟!\"
إن هذه الأمور الأربعة بحاجة إلى دراسة وتحليل من قبل التربويين والمصلحين الاجتماعيين والإعلاميين والسياسيين للبحث عن أسبابها وطرق علاجها، ويجب أن لا يمر هذا الحدث كأي خبر \"طريف\" يجتذب مئات التعليقات وحسب، ولا بد أن يكون للمشرعين في مجلس الأمة وللأكاديميين في الجامعات \"وبعض هؤلاء الشواذ من طلاب الجامعات\" وللأحزاب السياسية خصوصا الحركة الإسلامية وللنوادي والهيئات الشبابية وللجمعيات الخيرية والثقافية دور في التصدي لهذه الظواهر وعلاجها من جذورها.
أما الدور الأمني وهو جزء من الوقاية والعلاج ولا يجوز أن نحمله العبء الأكبر فقد كان أداؤه مؤسفا في هذه الحادثة، وأعترف لكم صراحة بأنني وبعد قراءتي لهذا الخبر المؤلم تراءت لي أحداث عديدة عشتها وشاهدتها جعلت المفارقة أشد إيلاما، ونكأت جراحا بعضها قديم دامل وبعضها جديد لم يندمل بعد.
قارنت بين تعامل رجال الأمن \"الإنساني\" مع هؤلاء الشواذ وكيف أنهم لم يقوموا بإيقاف أي منهم لعدم تمكنهم من أخذ موافقة الحاكم الإداري لتأخر الوقت، وبين \"خشونة\" رجال الأمن مع شباب \"واد الأكراد\" في السلط قبيل أسبوعين واستخدام الرصاص الحي في تفجير رأس شاب بريء أعزل في \"كفرهودا\"!
تذكرت كيف تم اعتقال خمسة وثلاثين طالبا من طلاب الجامعة الأردنية قبل أسابيع من إحدى المزارع في مادبا حيث كانوا يكبرون ويهتفون \"هتافات إسلامية مزعجة للجيران\" استدعت من رجال الأمن معاملتهم بكل \"خشونة\" وحرمانهم من النوم والطعام لمدة أربع وعشرين ساعة!
تذكرت كيف تم إيقاف المرحوم سليمان عرار رئيس مجلس الأمة الأسبق والسيد حمزة منصور أمين عام أكبر حزب أردني وإيداعهم في \"البوكس\" أمام الجامع الحسيني لقيادتهم مسيرة غير مرخصة قبل سنوات، مع العلم أن تجمع هؤلاء الشواذ لم يكن مرخصا أيضا!
تذكرت كيف أدمت الهراوات قبل أعوام رأس الدكتور عبد اللطيف عربيات رئيس مجلس الأمة الأسبق والدكتور إسحق الفرحان وزير الأوقاف ووزير التربية ورئيس الجامعة الأردنية الأسبق في مهرجان المحطة غير المرخص أيضا!
أما العبارة التي علينا جميعا أن نقف عندها دهرا كاملا فهي صرخة الشواذ في وجه رجال الأمن \"ما بتعرف احنا ولاد مين؟!\"، فهذه الصرخة تشخص أساس الداء ولب البلاء، بل وتؤسس لمرحلة قريبة قادمة ينقسم فيها مجتمعنا إلى فئتين، فئة تمثل غالبية الشعب الساحقة في الأحياء الفقيرة في عمّان والمحافظات والأرياف والبوادي والمخيمات والأغوار، هذه الفئة التي تصلي الاستسقاء والتراويح وتعاني على طوابير الحافلات والكاز والخبز، ولديها بقية من طيبة وشهامة وكرامة وأصالة وتدين فطري وحياء والتزام، وولاء حقيقي للهاشميين وإرثهم التاريخي وانتماء صادق لتراب الأردن وفلسطين، هذه الفئة التي تغني في أهازيجها \"ربع الكفافي الحمر والعقل ميالة\" وتغني \"أناديكم، أشد على أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم، وأقول أفديكم\" وتنشد \"هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل، فصفوا الكتائب آساده ودكوا به دولة الباطل\".
أما الفئة الأخرى فهي فئة \"ما بتعرف احنا ولاد مين؟!\" التي لم تتعلم من الرجولة إلا ذكورتها، ولم تعرف من الوطنية إلا أرصدتها البنكية وسياراتها العالية وقصورها المخملية ومزارعها الإقطاعية، ولم تذق من الولاء والانتماء إلا بقدر مناصب ومكاسب آبائها، إن الواحد من هؤلاء يذكرني بأبيات \"عرار\":
من ماء (راحوب) لم يشرب وليس له
ربع (بجلعاد) أو حي (بشيحانا)
ولا تفيأ في (عجلون) وارفة
ولا حدا بهضاب (السلط) قطعانا
ولا أصاخ إلى أطيارنا سحرا
(بالغور) تملؤه شدوا وألحانا
إن هؤلاء هم الغرباء حقا وهم الذين يحملون حقائبهم وأرصدتهم على أقرب طائرة تطيح بهم بعيدا في اللحظة التي يشعرون فيها أن الأردن بحاجة إلى عرقهم ودمائهم، إنهم أدمنوا على مص دماء الوطن وأبناء الوطن كما أدمنوا على الهوس والصرع والانتماء والولاء لكل شيء عدا تراب هذا الوطن الطهور.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات
hishamkhraisat@gmail.com