نكتشف الآن ان الحكومات تخطىء، ويمكن ان تعاند وتكابر في الخطأ، وتستقوي علينا بأخطائها فندفع الثمن.
جردة القرارات الاخيرة التي وصلتنا من حكومة الدكتور الرزاز تجعلنا مطمئنين الى حقيقة واحدة، وهي ان ما تقوله الحكومات ليس صحيحا دائما، فقد كدنا نصدق ان مشروع قانون الضريبة قدر لا يرد ثم تفاجأنا (هل تفاجأنا حقا) ان سحبه من مجلس النواب لا يحتاج لاكثر من كتاب بسطرين من الحكومة للنواب فتم، كدنا نصدق ان تكاليف معالجة مرضى السرطان فوق طاقة الدولة وان دخولهم لمركز الحسين اصبح مستحيلا لنكتشف ان المسألة لا تحتاج لاكثر من تصريح حكومي، كدنا نصدق اننا لا نستطيع ان نوفر من نفقات الوزارات قرشا واحدا لنكتشف ان عطاء واحدا لصيانة الاشارات الضوئية يوفر على الخزينة نحو 50 مليون دينار سنويا... وهكذا الحبل على الجرار.
نسأل بمرارة: ما الذي حدث؟ كيف انتقل المسؤول من دائرة المعاندة الى الصراحة والشفافية، كيف صار بمقدورنا ان نصحح اخطائنا في ايام، ونسأل ايضا: من يصنع القرار في البلد وكيف يصنعه، نتذكر هنا قصة اعضاء مجالس امناء الجامعات، هل يعقل ان نختار اشخاصا لا تنطبق عليهم الشروط الاساسية للتعيين، وماذا كان يفعل الذي اختارهم، ينجّم مثلا؟ نسأل ايضا كيف نتحول 180 درجة في استداراتنا على مستوى السياسات والقرارات، والاجابة واحدة وهي ان ما فعلناه بانفسنا في السنوات الماضية كان سلسلة من الارتجالات التي كلفتنا ثقة الناس بمسؤوليهم والاهم قدرة بلدنا على النهوض والوقوف على قدميه.
أوهمنا بعض المسؤولين فيما مضى ان «ما في اليد حيلة» وان علينا ان ندفع ما يقرر علينا من ضرائب وننفذ ما يصدر من قرارات لانه ادرى منا بمصلحتنا، اوهمنا ايضا ان مشاغله لا تمكنه من الرد على اسئلتنا وانه (اعانه الله) مشغول دائما بتدبير مصالحنا بمنهى الحرص والدقة، الان نكتشف بعد ان امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بردود الرئيس الرزاز وبعض وزرائه ان بمقدور المسؤول ان يتصل مع الناس ويرد على انتقاداتهم، وان بوسعه ان يصحح القرارات التي اخطأ فيها حين يقول له الناس اخطأت، وكل ذلك لا يقلل من هيبة المسؤول بقدر ما يعيد ثقة الناس به.. وبالدولة ومؤسساتها ايضا.
قلت فيما مضى اننا لا نتوقع من المسؤول -اي مسؤول- ان يصارحنا دائما بالحقيقة، فقد يكون ذلك فوق طاقته وخارج صلاحياته، نريد منه فقط ان يمتلك حدا ادنى من «اللباقة» بحيث لا يتجرأ على استهبالنا او استعباطنا او استفزازنا، نريد منه ايضا ان يحترم عقولنا ومشاعرنا، فنحن مثله نعرف واجباتنا وحريصون على بلدنا، واذا تعذر عليه ذلك فلا اقل من ان يتحلى بنعمة الصمت، فقد قيل فيما مضى (اذا كان الكلام من «تنك» فان السكوت من ذهب).
اضيف ايضا انه اذا كانت المكاشفة تعبر عن حالة من القوة والثقة بالنفس، فان التمويه والاختفاء خلف جدران «التعمية» يعكس حالة من الارتباك والخوف والعجز، ومع التسليم ان بلدنا اجتاز المرحلة العاصفة باقل ما يمكن من خسائر، فان المفترض ان نستثمر هذه الفرصة لترسيخ قوة الدولة وتماسك مؤسساتها، لكي تعبر منها نحو واقع جديد يجعلها اشد صلابة لمواجهة اية مستجدات او اخطار قادمة.
تبقى ملاحظة وهي ان امتحاننا الذي يفترض ان نتجاوزه بنجاح لا يتعلق بتصفية الحسابات فيما بيننا، ولا بانتصار رغبات بعضنا، وانما يتعلق بقدرتنا على اعادة العافية لمجتمعنا، وترسيخ هيبة دولتنا، وهو امتحان صعب، ولا يمكن ان ننجح فيه الا اذا تحررنا من منطق «وانا مالي «ومنطق «انا ومن بعدي الطوفان «، فهذان المنطقان هما اللذان اسسا لاسطورة المبالغة في تقدير الذات، والقطيعة مع المحيط، والطلاق مع الناس، وهما اللذان قادا غيرنا الى الخراب.
نحتاج اليوم اكثر من اي وقت مضى الى مصارحات حقيقة تكشف عن عيوننا الغبش، وتجنبنا الوقوع في الغلط والندم، وتعيدنا الى معادلاتنا الحقيقة الاصيلة التي حافظت على «البناء». هذه المصارحات ممكنة وضرورية ايضا، لانها ستكون المدخل الاساسي لاية مصالحات وتوافقات اصبح لا غنى لنا عنها، حتى وان تصور بعضنا اننا انتهينا منها او ان وقتها لم يحن بعد.