شاءت لي الأقدار وظروف اليتم والعودة من الخليج بعد وفاة والدي رحمه الله تعالى أن يكون مقام أسرتي على مشارف هذا المخيم الكبير الذي يعد معلما تاريخيا من معالم مأساة العصر-النكبة الفلسطينية.
وفي البداية لم تكن الإقامة على التماس لمثلي أمرا سهلا، وقد عانيت منه شيئا ما لولا أن احتضنتني الحركة الإسلامية التي تصهر في بوتقتها كل مكونات هذا المجتمع الطيب من مختلف الأصول والمنابت، فيتفيؤون في ظلالها نعيم الأخوة الإسلامية الصادقة الرحبة.
أذكر ذات مرة وكنت أدرس القرآن لحلقة من الطلاب الصغار في المسجد، جاءني طفل في الحلقة من مخيم الوحدات وسألني على انفراد إن كان ما سمعه عني صحيحا؟! فسألته عما سمعه عني فقال: أنت حقا "أردني"؟! فأجبته: نعم .. وبدأت بالشرح له عن أخوة الإسلام التي تجمعنا تحت سقف هذا المسجد، ولكنني شعرت بأن عينيه وعقله وذاكرته تحلق في عالم آخر لا يعي ما أقول، وذهب الطفل من فوره، ولم أره بعد ذلك!
ولكن هذه الحواجز النفسية التي صنعتها السياسة والأحداث المؤسفة بدأت تتلاشى من أمامي حتى أصبحت من أهل الحي عبر أربعة عشر عاما عشتها هناك أتردد على مساجد المخيم وأشارك في نشاطاتها وألقي فيها الدروس والمواعظ، بل وأشارك في النشاطات الجماهيرية التي تتصدرها الحركة الإسلامية من مهرجانات ومسيرات وكنت غالبا في المقدمة، وإن نسيت فلا أنسى صبيحة اليوم التالي لمجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل حيث دعت الحركة الإسلامية إلى الإضراب العام وتعطيل الدراسة وكنت وإخواني دعاة لهذا الإضراب، فلاحقني بعض رجال الأمن في أزقة المخيم وكدت أقع في المصيدة رهن الاعتقال، فما كان من إحدى حرائر مخيم الوحدات إلا أن فتحت لي باب بيتها فدخلت متواريا، ووقفت هي على الباب مع جاراتها وتصدين لرجال الأمن ورفضن فتح الباب وخذلن عني حتى ابتعدوا، فخرجت متوغلا في أزقة المخيم لأخرج بعد ذلك على رأس مسيرة ضمت الألوف من أبناء مخيم الوحدات الغاضبين للدم الفلسطيني المراق في الخليل.
وإن كنت أنسى فلا أنسى يوم أن أنهيت الثانوية العامة بمعدل أهلني للقبول في كلية الهندسة في الجامعة الأردنية، ولكن من أين لي (350) دينارا هي القسط الأول في الجامعة ودخل أسرتي في ذلك الوقت لا يتعدى (90) دينارا، يومها أخذني جاري الخليلي الحافظ للقرآن الكريم والذي يعمل شرطيا في الأمن العام إلى رئيس لجنة زكاة مخيم الوحدات وهو خليلي أيضا من عشيرة تتوزع أفخاذها بين الطفيلة والخليل، ولتتبنى هذه اللجنة الكريمة تعليمي الجامعي.
شريط الذكريات هذا تراءى كله لي بعد منتصف ليلة البارحة عندما شاهدت مقاطع الفيديو التي بثتها المواقع المختلفة، وهي تظهر رجال الدرك يبادرون ويعتدون بالضرب على جمهور مخيم الوحدات الأعزل، وكيف تدافع الشباب هربا من الهراوات القاسية حتى سقط الشبك الحديدي وكان ما كان، وتألمت وأنا أشاهد الصور التي التقطت لبعض الجرحى ومنهم أطفال أبرياء سقطوا وقد انتفخت رؤوسهم من أثر ضرب الهراوات الواضح والبين دون الحاجة إلى أي إثبات، وأتساءل هل كان هؤلاء الأطفال المفغوشة رؤوسهم وعيونهم من هراوات الدرك من مثيري الشغب أيضا؟! وهل يضطر رجال الدرك إلى الضرب بهراواتهم على مقل العيون كي يتم منع الشغب؟! وإن كان ما فعله الدرك مشروعا ومبررا فلماذا يعتقل الصحفيون ويضربون وتصادر كاميراتهم؟!
أسئلة كثيرة مشروعة لا يجيب عليها إلا تحقيق جاد وفوري تجريه الحكومة ويشارك فيه النواب الممثلون للمتضررين وممثلون عن الجهات الرياضية ذات العلاقة، كما أن الأحزاب السياسية والحركة الإسلامية والمنابر الإعلامية والمواقع الإلكترونية والشخصيات الوطنية والوجهاء وخطباء المساجد مدعوون جميعا للتحلي بالمسؤولية وترجيح المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في الحفاظ على الوحدة الوطنية المقدسة كي نتمكن جميعا من معالجة تداعيات هذا الحدث المؤسف ونئد الفتنة في مهدها.
عندما طرحت في مقالات سابقة تجاوزات بعض منتسبي الأمن العام ورجال الدرك للحد القانوني المسموح به من استخدام العنف الرادع في أحداث السلط الأخيرة انهالت علي عشرات التعليقات التي تتهمني بالعشائرية والعنصرية والإقليمية وتدافع عن هيبة الأمن العام وأنهم يجب أن يضربوا بيد من حديد على العناصر الخارجة عن القانون لأننا في دولة المؤسسات والقانون، وأشاهد اليوم أصحاب هذه التعليقات أنفسهم يناقضون آراءهم في هذه الحادثة عندما وقعت الفأس في الرأس، وأقول لأننا دولة المؤسسات والقانون وحقوق الإنسان ولأن الإنسان أغلى ما نملك فعلينا أن نقف أمام أي تجاوز للقانون والصلاحيات سواء وقع من رجال الأمن والدرك أو من قياداتهم المسؤولة أو من السلطة التنفيذية في مواقعها الميدانية المختلفة في السلط وحي الطفايلة كما في مخيم الوحدات والقويسمة والأشرفية كما في أي مدينة أو قرية في وطننا العزيز المقدس ترابه والمقدس أمنه والمقدس دماء أبنائه وكرامتهم وإنسانيتهم.
وخاتمة القول فإنني لو سئلت يوما من أين أنت؟ فسأقول لهم: إنني سلطي جاء أجدادي الأوائل من الحجاز قبل ثلاثة قرون وسكنوا الأردن من شمالها إلى جنوبها، وأخوالي جاؤوا من نابلس قبل مائة وعشرين عاما فعمروا السلط وأعلوا بنيانها، وجدتي من الشراكس الذين أسسوا بلدية عمان، وجدتي الأخرى من الشوام الذين أسسوا الحركة التجارية في الأردن، وزوجتي فلسطينية تجري دماؤها في عروق أبناتي وبناتي، نعم إنني (سلطي .. من مخيم الوحدات).
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات