د.بسام البطوش *
في محاولته لتفسير الحراك السياسي المتفاعل على الدوام في الكرك الأرض والإنسان، يقول \"بيتر جوبسر\" مفسرا سلوك أهل الكرك :\"يحفزهم إلى ذلك مزاج مولع بالقتال\"، وإن كنت أجد نفسي متفقا مع المستر جوبسر في قصة \"المزاج المولع\"، إلا أنني أختلف معه في تحديد اتجاهات هذا الولع ونوعيته وشكله ،فنحن أمام مزاج مولع بالوعي والسياسة والانتماء، ولعل \"بيتر جوبسر\" يريد تفسير الظاهرة الاحتجاجية أو ثقافة الاحتجاج التي تطبع المشهد الكركي عبر الزمن قبل ثورة الكرك (الهية) 1910، وبعدها.
قد يكون المستر جوبسر محقا لو كان تمعن في شعار رفعه الكركيون (يا سامي باشا ما نطيع ولا نعد رجالنا.. لعيون مشخص والبنات ذبح العساكر كارنا) ،فنحن أمام فلسفة البطولة المنطلقة من أفضلية المنية وأولويتها على الدنية.وهو شعار يلخص جيداً ثقافة الاحتجاج والرفض والتمرد على الظلم ، التي تجسدت في الفعل الاحتجاجي النوعي (الهيّة)أو ثورة الكرك( تشرين ثاني 1910 )،وهو يعبر عن رفض أهالي الكرك لسياسات الاتحاديين التتريكية وإجراءاتهم الإدارية والمالية الماسّة بحياة الإنسان الكركي،والمتمثلة في فرض الضرائب وتسجيل وإحصاء النفوس، وتسجيل الأراضي والأملاك، وفرض التجنيد الإلزامي، وجمع الأسلحة من بين أيدي الأهالي.وفي اعتقادي أن هذه الأسباب في التحليل المنهجي لعوامل الثورة تأتي في سياقات العوامل المباشرة فقط،لكنها لا تفسر مجمل العوامل والدوافع الكامنة خلفها.
لايمكن فهم هذا الفعل الاحتجاجي فهما صحيحا بجعله مجرد فعل مطلبي محلي منحصر في المكان والزمان والدوافع ،بل ينبغي وضعه في سياق من الوعي السياسي المكثف،الذي بات يجتاح بتياراته النهضوية والتنويرية المحيط العربي بأكمله؛ فاللحظة التاريخية التي جاءت فيها الثورة حبلى بالتحولات النهضوية والسياسية على المدى العربي، والأحزاب والجمعيات العربية آخذه في التشكل والتوالد والتحرك،والعرب تموج دنياهم بالتيارات الفكرية والسياسية،والصحافة العربية تلهج ليل نهار بمطالب العرب في الاصلاح واللامركزية ، وأحداث حوران مشتعلة وأخبارها تقرع بوابات الكرك، وحملة سامي باشا هي ذاتها كانت متورطة في قمع حوران وجبل العرب قبل أن تتحرك نحو الكرك. وبعد،كيف لنا أن نرتكب خطأ منهجيا خطيرا بمحاولة عزل \"الهية\" عن محيطها السياسي والفكري العربي المشتعل؟!
وإذا كانت ثورة الكرك (الهيّه) فعلاً احتجاجاً يفتقر للأدبيات الفكرية والسياسية الممهدة له و الحاثة علية والنابعة من البيئة ذاتها، فإن هذا الفعل الاحتجاجي،نهل من معين التجربة المريرة للأهالي ، ومن طويل معاناتهم مع الإهمال العثماني القديم للمنطقة وشؤونها ،ومن مرارة التجربة مع السياسات الاتحادية التتريكية الفجة الظالمة،كما جاء هذا الفعل الاحتجاجي معبرا عن عميق الحراك الثقافي والوجداني الكركي المرهف الحساسية بمجريات المحيط العربي ،وبإمكاننا أن نقرأ الخطاب السياسي والفكري للثورة في الصحافة العربية الصادرة في الأستانة والقاهرة وبيروت بقلم توفيق المجالي النائب في مجلس المبعوثان العثماني،الذي شرح عبر سلسلة من المقالات ظروف الثورة وأهدافها وأسبابها ودوافعها ،مقدما الحلول والمقترحات لإخراج الجميع، الدولة والأهالي من أتون هذه الأزمة المتصلة في وعي أهلها،وفي ضمير توفيق المجالي ووعيه، بالحركة العربية العامة،التي انتسب توفيق بيك المجالي لعدد من جمعياتها وأحزابها،كحزب اللامركزية الإدارية العثماني.
ولعل مما يعزز الاعتقاد بأننا أمام فعل سياسي ناضج ومتكامل، أن الثورة جاءت مترافقة مع أداء سياسي رفيع،وعملية تبادل للأدوار بين الزعامات المحلية؛ فشيخ المشايخ قدر المجالي يقود الثورة،ويرجح خيار المقاومة،ويمضي به حتى آخر المطاف،يسنده ويدعمه عموم شيوخ عشائر الكرك،أما الزعيمان رفيفان باشا المجالي وحسين باشا الطراونة فيطرقان أبواب الدبلوماسية الناعمة،ويحفظان خطوط العودة،ويهتمان بتأمين خروج آمن للبلد وأهله من هذه \"الهية\" ، وبأقل الخسائر الممكنة ،في حين تتجلى الوحدة الوطنية في أبهى صورها وأرفع نماذجها عندما يأتلف أهالي الكرك مسلمين ومسيحيين في موقف الدم والثورة ،وتدفع الكرك بأبنها عودة القسوس سفيرا لعاصمة الولاية مفاوضاً الوالي في دمشق، وعارضا مطالب أهله وبلده،في محاولة لتجنب خيار المواجهة،وإجهاض حملة سامي باشا، لكن الصراع بين الوالي وقائد الحملة العسكرية أي بين الإدارة المحلية والقيادة العسكرية يفشل جهوده؛فيعود ليخبر زعامات الكرك بأن الحل الدبلوماسي بات يواجه طريقا مسدودا،لكنه وصل في الوقت الذي فرضت فيه التطورات على الأرض خيار المواجهة.
ومن أشكال العمل السياسي المصاحب للثورة ،ذاك الدور الهام الذي مارسه مبعوث الكرك توفيق المجالي في العاصمة الاستانه؛ فقد حمل هموم منطقته وأهله إلى الباب العالي، وشرح ظروفهم وطالب بحلول لمشكلاتهم، ودافع عن حقوقهم،لكن لاحياة لمن تنادي! وفي القاهرة ساهم في تعريف الحركة العربية ورجالاتها بحقائق الثورة الكركية،بهدف جلب الدعم والمساندة السياسية والاعلامية.
وعلينا ونحن نضع \"الهية\" في سياقاتها العربية والإقليمية أن نتنبه إلى دورها في تهيئة البيئة الأردنية لتقبل فكرة الثورة العربية بقيادة الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه،التي جاءت في وقت مازالت فيه الذاكرة الكركية والجنوبية والأردنية حية ومليئة بصور المآسي التي اقترفتها القوات التركية ضد أهالي الكرك.فجنوب الأردن كله شهد فصول النكبة التي حلت بالكرك وأهلها أثناء الثورة وفي أعقابها ،والتعاطف مع مأساة الكرك امتد إلى الطفيلة والشوبك ووادي موسى ومعان،واللاجئون الكركيون وصلوا أقاصي الجنوب ،والسجناء منهم رجالا ونساء ضمتهم زنازين سجن معان، ومما لاشك فيه أن هذا ساهم في جعل أهالي الأردن عامة يرحبون بالثورة العربية الكبرى وينظرون لها بوصفها ضرورة قومية وطوق نجاة للخلاص من مظالم الترك الاتحاديين .
*أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الزرقاء