غريب هو أمر هذه الذاكرة التي نتمتع بها؛ فهي نشطة تقاوم السنين والسنون عندما يلوح بين خلاياها حدث قضى وانقضى منذ سنوات، عشرات، وإن شئت مئات السنين. وهي الذاكرة نفسها التي تدخل في سبات عميق ياولدي عندما تريد تذكر حدث وقع منذ شهور، أسابيع، أيام، وإن شئت منذ ساعات أو دقائق. فلدينا القدرة التي لانحسد عليها في استرجاع أحداث داحس والغبراء، فدَحَسْنا شرورنا، واغبرّت جروحنا على فساد دون برء ولا شفاء. كما أنّ هذه الذاكرة اللعينة تحفظ عن ظهر قلب ماقاله كلّ من كليب، وجساس، والزير سالم، والجليلة، ولكنها في الوقت نفسه عاجزة عن استرجاع المعوذتين وما فيهما من شرّ الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور النّاس من الجنّة والناس. ذاكرة تصف لك ماجرى بين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان وصفا ما بعده وصف، بتفاصيله ودقائقه مشفوعا بالتأويل والتفسير. ولكنها تقف بلهاء في تذكر الإيثار بين أنصار المدينة ومهاجري قريش.
نحن( الآن) قوم نشتري البلاء شراء؛ فندقّ في نعش عروبتنا مسمارا ومسامير، لا بل وتدا وأوتادا، فهذا شامي وذاك خليجي، وأما ذلك فمغاربي. هذا أردني وذاك سوري، وأما ذلك ففلسطيني. هذا سعودي وذاك عماني، وأما ذلك فكويتي. وإن عدنا إلى البلد الواحد، فسنقول شمالي وجنوبي، وشرقي وغربي. وإذا توجهنا صوب القرية الواحدة، فسنوزعها إلى حارة شرقية وأخرى غربية. وإذا يممنا شطر المدرسة، فسنكتب على باب غرفة الصف: تاسع(أ) وتاسع(ب). لقد تعودنا منذ نعومة أظفارنا أن نعرّف على بعضنا من خلال تصنيفات ظاهرها تفرقة وباطنها شرذمة.
أسوق هذه المقدمة في ظلّ عنف رياضيّ يضرب بسوطه أرجاء هذا البلد بين فينة وأخرى، مستغلا أتفه سبب لتنفث السموم، وتخرج الريح العفنة من مرقدها، هذه الريح نفسها التي حاربها رسول الله-عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- قائلا للمهاجرين والأنصار: دعوها فإنها منتنة. بالله عليكم ماعلاقتنا ببرشلونة وريال مدريد! بالله عليكم ما فائدة إن فاز الفيصلي أو ربح الوحدات في حين يخسر الوطن! فإذا كانت الرياضة مدعاة لكلّ ماجرى، فلا بارك الله بها ولا بالقائمين على إشعال أوارها. ولا بالمطبلين والمزمرين الذين ينبحون عند رؤيتهم عظام جيف نخرة نفقت منذ أبد نراه بعيدا ويرونه قريبا ماثلا أمام أعينهم في كل مناسبة يحولونها إلى ذاك الدّمّل الذي لم يبرأ بعد في نفوس ضعفت ووهنت، فلم تجد شيئا تستقوي به غير هذا الدّمّل بريحه النتنة.
أيها القاطنون على تراب هذا البلد من بشر وشجر وحجر، اتقوا الله
فالحجر الذي يزن على أرضه قنطارا، لن يزن على غير أرضه درهما ولا دينارا. والشجرة إن اجتثت من جذورها لن تنمو في تربة غير تربتها، وسيغزوها دودٌ وديدانا. امّا أنت يامن تنفخ في كيرك، فلن تجد في غير الأردن إلا أسمالا وقِطميرا. فيا أيها النافخون والمطبلون والمزمرون اتقوا الله؛ فهذا البلد الذي يجمع شمائل الجزيرة العربية وبلاد الشام أكبر منكم، وهذا البلد الذي فيه سلالة المصطفى ولاة أمر أكبر منكم، وهذا البلد الذي احتضن الشركس والشيشان والفلسطينيين والعراقيين أخوة وأشقاء أكبر منكم، وهذا البلد الذي ماجفّت بئره ولا انطفأت ناره أكبر منكم، وهذا البلد الذي حجارته من صوان وشجره من بلوط وتين وزيتون أكبرمنكم. هذا هو الأردن شاء من شاء وأبى من أبى.
أيها القاطنون على ترب هذا الوطن: إن أردتم خيرا لهذا البلد فلنضع أيادينا طاهرة بعد وضوء بأيدي بعض، ونعالج هذا الدّمّل بعيدا عن المسكنات التي لم تُجدِ نفعا، ونحاول أن نقتلعه من جذوره الكامنة في صدورنا لا في صدور غيرنا، ولنربي أبناءنا والجيل القادم على تربية أخرى غير التربية التي نمارسها، وسلوكات غير سلوكاتنا، ونيات غير نياتنا. ولنلبسهم أردية وجلابيب غير التي لبسناها.
أيها القاطنون على تراب هذا البلد من حجر وشجر وبشر، اتقوا الله قبل أن يأتي يوم لاتجدون فيه أصابع تعضون عليها.