كانت آخر مرة التقيت فيها أستاذنا في الفن الإسلامي المنشد الشهير أباراتب قبل أشهر من اعتقاله في الولايات المتحدة بالتهمة الجاهزة لكل عربي مسلم –مساندة الإرهاب- وكان لقاؤنا في ضواحي عمّان الحبيبة على هامش بحثي له عن قطعة أرض مطلة ذات تربة حمراء وهواء عليل يطمح فيها لإقامة بيت يستقر فيه بالأردن في المستقبل القريب.
عندها أعلمني أنه يمتلك بيتا في الولايات المتحدة يعيش فيه مع زوجته وبناته، ولكنه ينظر إليها على أنها مرحلة مؤقتة يبني فيها الإنسان وينجز، وأن البيئة التي يرجوها لأهل بيته ومستقر البناء والمآل المرجو هنا في عمّان وليس هناك في أرض ما وراء البحار والمحيطات.
وللأسف كانت أمواج هذه البحار والمحيطات أعتى مما توقعه صديقي أبوراتب مما كلفه شهورا في السجن والزنازين الأمريكية، ولولا لطف الله تعالى ثم براءته الحقيقية مما أسند إليه من تهم باطلة ولولا دعاء الأمهات الصابرات والأخوات المؤمنات والإخوة الصادقين المحبين له في الله تعالى وهم بالملايين لقضى أبوراتب في السجن بضع سنين أو ربما عقدين أو أكثر.
عندما رأيت أبا راتب آخر مرة تذكرت بيت أهله في جبل القلعة وسط عمان القديمة في التسعينيات، وتذكرت أبا راتب الطالب في إحدى الجامعات العراقية في الثمانينيات، وتذكرت أبا راتب الفتى الشاب الفار بدينه ونفسه وأهله وإخوانه من السجون والمعتقلات.
لقد استقبل الأردن مطلع الثمانينيات الألوف من الإخوان المسلمين السوريين بعد أحداث حماة الدامية، فكان لهم نعم المضياف ووجدوا فيه الأهل والوطن، واندمجوا في مكونات مجتمعه السكانية ومجالات حياته الاقتصادية والثقافية حتى غدا بعضهم علما ومعلما من أمثال المنشد الإسلامي العالمي "أبي راتب".
حقيقة إنك كريم يا بلدي الحبيب، كريم أهلك، مبارك ترابك وهواؤك وماؤك وزرعك وضرعك! قبل تلك الهجرة استوعبت هجرتين تاريخيتين كبيرتين ظننا أنهما أكبر من قدرتك على الاحتمال، ولكن كرمك ورحابة صدرك بإخوانك وجيرانك ليس لها حدود، وبعد ذلك استوعبت هجرة العائدين من أبنائك من الكويت بعد غيبة لبعضهم استغرقت نصف قرن فوجودك أكثر حبا وتحنانا، ثم استوعبت هجرة إخوانك من العراقيين فذكرتهم بأن أرض الأردن هي مثوى أحرار العرب وعشاق الوحدة ومجاهدي ميسلون وأبناء الهلال العربي الخصيب.
لو تعلم يا أباراتب في غيبتك القسرية الأخيرة في الزنازين الأمريكية! لقد اختبرت صبر رموز كبيرة في سلطتنا التنفيذية فوجدت صبرهم جميلا وصدرهم واسعا وفضاءهم رحبا رغم كل انتقاداتي الحادة وسهامي المؤلمة وكلماتي اللاذعة!
فبدءا برئيس الوزراء الذي وصفته وزملائي الكتاب بشيخ الطريقة الرفاعية! ومرورا بوزير السياحة الذي أنعمت عليه بالجنسية الإسبانية! ووزير الأوقاف الذي رجوت له لو كان إيطاليا! ووزير الداخلية الذي تمنيت لو كان فرنسيا! حتى وصل الأمر إلى نقدي الشديد لأداء قوات الأمن العام و الدرك! بل قلت بصريح العبارة لمدير الأمن العام: لقد أخطأت!
أقسم لك بالله يا صديقي أباراتب بعد كل ما كتبت لم أتلق هاتفا من جهة ما باستدعاء أو حتى عتب، وكنت أنام الليل الطويل بأمن وأمان لا أخاف طوارقه، وأنا أعلم أن من يحميني ويؤمنني في هذه الليالي الباردة المظلمة - بعد الله تعالى-هم من أجلدهم بسوط قلمي.
سأروي لك طرفة حقيقية حدثت معي قبل سنوات عندما كنت أقدم برنامجا سياسيا على الهواء مباشرة في إحدى الفضائيات العربية التي تبث من المدينة الإعلامية في عمّان، حيث كنت أحتفظ بهواتف عدد من النواب المهندسين ومنهم وزير الداخلية الحالي المهندس سعد هايل سرور، وكان مدير الإنتاج في برنامجنا يدعى سعدا أيضا، ولما كنت أصابتني نوبة شديدة من السعال المتواصل أوصيتهم بإعداد سخّان شاي كبير لاستخدامه طيلة البرنامج للتخفيف مما كنت منه أعاني، وعند دخولي المدينة الإعلامية طلبت سعدا من هاتفي النقال وصرخت في وجهه: أين سخّان الشاي؟ فرد علي سعد: من أنت؟ ومن تطلب؟ فأخبرته أنني مقدم البرنامج وأريد مدير الإنتاج، فقال: يبدو أنك أخطأت في الرقم، فقلت له: من أنت؟ قال: أنا سعد هايل سرور!
بالله عليك يا أباراتب لوكنت أعيش في أي قطر عربي آخر من الصومال إلى جزر القمر وما بينهما وحدث معي الذي حدث هذا أو معشاره هل كنت لا أزال حرا طليقا آمنا مطمئنا؟!
أباراتب: هنيئا لك ولنا براءتك وحريتك، عد إلينا فنحن في انتظارك لنقول لك: أباراتب .. مرحبا بك في الأردن.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات