المتأمل لتاريخ لبنان يجد الكثير من المفارقات والمقاربات... ونحن اليوم على أعتاب حلقة جديدة من مسلسل التوتر الداخلي في لبنان، والذي طالت حلقاته وسبقت كل المسلسلات التركية والمكسيكية، فكاتبي سيناريو هذه الحلقات لا يكلون ولا يملون من إبقاء لبنان ساحة لتكسير العظام .... وتهشيم أي شعور بالأمان ...
قبل 52 عاماً وتحديداً في العام 1958م، إشتعلت الجبهة الداخلية اللبنانية بأول حرب أهلية بين اللبنانيين، فبعد خمسة عشر عاماً من حصول البلاد على إستقلالها، كان الرئيس اللبناني كميل شمعون وحكومته متهمين بالتقارب مع الغرب والعمل على الإنضمام إلى حلف بغداد، ومن بعدها تم الإنضمام فعلياً إلى مبادرة أيزنهاور، بالإضافة إلى الصدام مع الخط القومي العربي الذي كان يتزعمه جمال عبدالناصر، فهذا الفريق لا يؤمن إلا بالقومية اللبنانية بأصولها \"الفينيقية\" فقط، ويقابل هذا الفريق فريق آخر في لبنان يتزعمه المنادين بالقومية العربية، وعلى رأسهم صائب سلام والزعيم الدرزي كمال جنبلاط ..
وبالمناسبة هذا الخلاف هو خلاف بنيت عليه دولة لبنان، فنتذكر معاً عند إعلان حصول اللبنانيين على إستقلالهم من فرنسا كيف إشتعلت النقاشات بين من ينادي بضرورة التبعية لفرنسا والتقارب مع الغرب، وتزعم هذا التيار أول رئيس للبنان بعدها بشارة خوري، وبين من ينادي بضرورة أن تكون لبنان جزءا من سوريا والعالم العربي، وتزعم هذا التيار أول رئيس للوزراء بعدها رياض الصلح، وتم حل هذا النقاش بولادة \"الميثاق الوطني اللبناني\"، والذي نص على أن تكون لبنان كيان حر مستقل لا يتبع لا لفرنسا والغرب ولا لسوريا والعرب، وحصل \"المارونيين على رئاسة الدولة\"، والمسلمين على رئاسة مجلس الوزراء ومجلس النواب في لبنان، ودفع رياض الصلح حياته ثمناً لتوقيع هذا الميثاق بإغتياله في العاصمة الأردنية بعد إعلان إستقلال البلاد بثمانية سنوات فقط.
أتذكر كل هذه التفاصيل لأقول بأن التاريخ يعيد نفسه اليوم ولكن بصورة معاكسة، ففي أزمة العام 58م كان الخلاف بين المسيحيين والحكومة المشكلة من طرفهم من جهة، ويقابلهم المسلمين بجميع طوائفهم (سنة وشيعة ودروز وعلويين وإسماعليين)، وأسفرت الأزمة التي إستمرت أكثر من شهرين وأشعلها الرئيس كميل شمعون حينها بسعيه نحو تمديد فترة رئاسته عن سقوط العديد من الضحايا بين الجانبين، والغريب هنا أن فريق المعارضة كان يتألف من السنة والشيعة والدروز معاً في صف واحد، وكان يتلقى الدعم العسكري والمادي من الدول القومية العربية \"مصر على رأسها في ذلك الوقت\"، وكان فريق الدولة \"المتهم بالتبعية للغرب\" مؤلف من المسيحيين وقلة من المسلمين.
اليوم الصورة بها القليل من الإختلاف ففريق المعارضة يتزعمه الشيعة الذين أصبحوا طائفة مستقلة تماماً في لبنان في العام 1969م، عندما تم تأسيس المجلس الأعلى الشيعي في لبنان، وتم إنتخاب موسى الصدر الذي جاء من إيران وتم منحه الجنسية اللبنانية رئيساً له !!
والمسيحيين منقسمين بين طرف مع المعارضة وآخر مع الدولة التي يقف في زعامتها اليوم المسلمين السنة، أما الدروز الذين كانوا في المعارضة في الأزمة قبل 52 عاماً، وفي فريق الحكومة في بداية أزمة 2010م يبدو أنهم وقفوا على الخشبة التي تفصل بين الفريقين الآن ربما سعياً منهم لتجنيب أنفسهم إراقة الدماء في حال نشوب أزمة متوقعة في أي لحظة ..
فريق دولة متهم بالعمالة، فريق معارضة ينادي بالقومية العربية أو المقاومة والوطنية، ودعم مادي وعسكري لفريق المعارضة.
الإتهامات والتشنجات هي ذاتها وإن إختلفت قليلاً (حلف بغداد ومبدأ أيزنهاور في الماضي والمحكمة الدولية اليوم) وما إختلف هو أدوار اللاعبين فقط..
وفي كل مرة نجد الرياح والعواصف الشديدة التي تهدد بإندلاع حريق جديد في شجرة الأرز التي تجمع كل الفرقاء وتظللهم بحنانها مع نهاية كل أزمة ...
السؤال اليوم هل سيعمل حكماء لبنان على الحفاظ شجرة الأرز، رمزهم الشامخ ومنع أي فتنة لأجل ذلك، أم أنهم سيسمحون بإشعال الحرائق ليكون أول إحتراق للأرز بأيدي زارعيها !!
كأني بأغصان شجرة الأرز التي تم زرعها بماء المحبة والإخاء بين اللبنانيين تحن وتشتاق إلى إحتضان بعضها البعض من جديد، فهذه الأغصان لا يمكن أن ترتوي بدماء أبنائها وهم يقتل بعضهم بعضا، ولكنها سترتوي وتزدهر بماء المحبة والتآلف والترابط ..
كلنا مع لبنان المقاوم ..... لبنان العزيز ... لبنان بجميع أهله سواء كانوا عرباً أو فينيقين .. فهذا هو لبنان الذي تكسرت على حدوده أنياب الصهاينة .. ولكننا نتمنى أن لا نردد مع اللبنانيين ...
راجع راجع يتدمر راجع لبنان !!!
بعد أن كنا نردد معهم ... راجع راجع يتعمر .... راجع لبنان ....
كتبت بقلم م. عبدالرحمن \"محمدوليد\" بدران