اختفت الشمس مجبرة,تحاول جاهدة ان تبث حرارتها دون جدوى ,ولت عابسة الا من بعض ضوئها غير القادر على مجاراة برودة الهواء ..تتجمع الغيوم في السماء ,تتلاحم ككتلة واحدة تطلق( فلاشاتها) بسرعة لتضيء المكان تتبعها اصوات مجلجلة لتخبر الجميع بان عرس الشتاء قد بدأ, ينهمر المطر بغزارة تلامس حباته تراب الارض العطشى كعريس يقبل عروسته ليختلط عطره بعطرها ليطلق رائحة جميلة لا تنسى ..
نتفرق نحن صغار البلدة مهرولين كل على بيته نطلب من امهاتنا ملابس الشتاء ,نتجمع من جديد فمنا من لبس معطف اخيه الاكبر (الجيشي ) وبسطاره الاكبرمن مقاس قدميه بثماني نمر ...ومنا من لبس سترة ابيه التي تفوق حجمه عدة مرات وغطاء راسه (الشماغ) فاصبح منظره(كفزاعة الحقل) ..نجوب شوارع بلدتنا يرافقنا معتوه (مجنون) البلدة الذي ما زال يرتدي ملابسه الصيفية والاخرس الذي يحب مرافقتنا دائما في كل مناسبة ,نغني اغاني الشتاء التي تطالب السماء بان تجود علينا مزيدا من المطر ويحاول المجنون والاخرس عبثا ان ينشدا خلفنا الا انهما كانا فرحين ,ينظر الصغار من نوافذ بيوتهم الينا متمنين ان يكونوا معنا فهم ممنوعون من الخروج فنحن الفئة الضالة بنظر اهاليهم ولا ينبغي عليهم مرافقتنا ..ونقوم نحن امامهم و نكاية بهم بالرقص واللعب والتسابق بقواربنا الورقية فوق السيول التي شكلها المطر ..
ننطلق الى (دكانة) البلدة فلا تكتمل فرحتنا دون ان نحلي انفسنا (بالهريسة والعوامة ) فاليوم لدينا مصروف استثنائي كما طعم الهريسة الملطخة بحبر (الجرائد ) ..كل منا يطعم الاخر من مشترياته غير ابهين بالمجنون والاخرس الذين يكتفيان بالنظر الينا تارة والى السماء تارة اخرى ..
يشتد المطر وكأن السماء استجابت لنا .. يبلل المطر اجسادنا وكأنه يسقي احلامنا لتكبر معنا ونكبر معها ..من حولنا الاشجار تتمايل طربا لصوت المطر ,تحتمي العصافير في باطنها مكتفية بالغناء .يأتي راعي الاغنام من بعيد مسرعا كما هي اغنامه يبللهم المطر وغايتهم ان يحظوا ببعض الدفء في مساكنهم ,تستمر جولتنا في الشوارع نتسابق على اسوار المقبرة ونتساءل عن حال الموتى هل هم فرحون مثلنا بقدوم المطر ,هل يشعرون بالبرد ام ان ملابسهم تحت التراب كفيلة بدرء البرد عنهم ؟ اخالهم سينبتون كسنابل قمح ويحيون من جديد لشدة زخات المطر ..نعود لنمشي في الحارات تنادي احدى (المرملات ) حديثا المجنون وقد بدت عليها ملامح الطيبة والورع وتعطيه معطفا كان لزوجها ليلبسه فرحا راقصا تحت المطر بينما يقوم الاخرس برمقه بنظرات حاسدة وابتسامات خرساء ..تبقى السماء تدمع بغزارة باكية على حال الاخرس والمجنون و(الارملة) ..
يحل الظلام ويعود كل الى بيته ,تستقبلنا امهاتنا بالشتم والصراخ ,مطالباتنا بخلع الاحذية الملطخة بالطين عند عتبة المنزل , نبدل ملابسنا ,نتجمع مع اخوتنا حول (مدفأة الكاز) العاجزة عن تلبية جميع مطالبنا من الدفء الا اننا نكتفي بالجزء اليسير , ابريق الشاي يعتلي غطاء المدفأة ,رائحة الشاي ونكهته مميزة كرائحة المطر ,نتناول عشاءنا ,تحضر امنا لنا ما تبقى من (بكسة المندلينا) ونقوم بالاجهاز عليها بالكامل,من حولنا صحون مليئة ب(القظامة وبزر دوار الشمس) هم رفاقنا ايضا في ليالي الشتاء , نستلقي على (فرشاتنا ) بجانب بعضنا البعض لنحظى بالمزيد من الدفء , تغطينا امنا ,نتبادل حكاية القصص التي لا تحكى الا في الشتاء,نتبادل احلامنا ...و مازال صوت المطر في الخارج يعزف اجمل الالحان الشتوية على نوافذ بيتنا ..نحارب النوم لتطول ليالي الشتاء الدافئة ,يغلبنا النعاس ونستسلم لطلبه منا النوم ,ننصاع له لنحلم بغد جديد من ايام الشتاء