لأنني لا أسكن في الوطن بل الوطن من يسكنني، ولأنني لا أحيا في الوطن بل
بالوطن أحيا، ولأنني لست طارئة على المكان بل المكان محفور في الوجدان
ومنقوش على جبين الذاكرة، ولأن الشعب ليس ضمن اهتماماتي بل هو يتصدر قائمة
الأولويات، فما زلت غير قادرة على الانغماس في الصمت ولا أستطيع إلا أن
أسأل وأبحث وأندهش فأسأل أكثر وأبحث أكثر وأحزن أكثر فأكتب أكثر.
أحاول جاهدة أن أمسك بأطراف الخلل التي تعبث في الوطن، فأجد الأطراف كثيرة
والخلل متفشيا والعقبات متراكمة والفساد مستشريا والحلول سهلة، إلا أنها
تحتاج ألسنة جريئة وأيدي مثابرة وهمما عالية وضمائر مستيقظة وذمما نظيفة
وقلوبا تخاف على الوطن وعلى الشعب وعلى المستقبل.
رغم إيماني بأن كل قضية من قضايا الوطن وكل مصلحة من مصالح الشعب تحتاج
منا إلى الطرح والتدقيق والبحث والسؤال والحل، إلا أن قضية اليوم هي من
صلب القضايا الهامة والجوهرية التي تصب في صلب المصلحة الوطنية العامة
بالرغم من أنها قد تبدو للوهلة الأولى قضية تمس فئة معينة من الناس وتختص
بشريحة محددة من شرائح الشعب.
يمكث أبناؤنا في كنفنا ست سنوات فقط قبل أن تقاسمنا المدرسة مسؤولية
تربيتهم وتعليمهم، فلقد كانت المدارس مؤسسات تربية وتعليم نعتمد عليها في
أن تساعدنا على تربية أبنائنا وتعليمهم بل وأن تصحح أخطاءنا وتزودنا
بالمعلومات حول أسس التربية وأساسيات التعامل وأصول التدريس، ولهذا كانت
المدارس والجامعات تزهر أطباء ومهندسين ورجال أعمال ومعلمين ومحامين
بالرغم من أن أولياء الأمور كانوا أميين.
من منا لم تلعب المدرسة دورا رئيسا وهاما في حياته؟
من منا لم يؤثر فيه وعليه معلم أو اثنان أو ثلاثة في أي مرحلة من مراحل طفولته ومراهقته؟
من منا لم تترك على جدران ذاكرته معلمة فاضلة عالمة مثقفة بصمات فكرها وأسلوبها وصوتها؟
من منا لم تغيره حياته الجامعية وتصقل شخصيته وتوجه أفكاره وتنمي مداركه وتطور قدراته العقلية والفكرية والعلمية والاجتماعية؟
أما اليوم فما يحدث في مدارسنا وجامعاتنا من انتهاكات وتجاوزات مشينة
ومهينة من قبل الطالب والمعلم والمدير والأستاذ والمسؤول من أخمص قدمي
الهرم وحتى أعلى خصلات شعر رأسه أخرج العملية التعليمية عن مسارها المفترض
باتجاه المأزق والهاوية والكارثة.
وظيفة وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي في العالم كله هي الحفاظ
على معايير أخلاقية وعلمية راقية وعالية وثابتة بحيث تتناقل الأجيال
عبرهما القيم والأخلاق والأفكار والعلم والمعرفة والعلوم الإنسانية
والتطبيقية والكونية بمنهجية علمية تخرّج أفواجا من الحكماء والعلماء
والأدباء والفلاسفة والمفكرين والباحثين والشرفاء الأحرار المنتمين للهوية
والذات والدين والوطن.
هل وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي في الأردن بوضعهما الحالي
وقوانينهما الحالية والفساد المعشش في مفاصلهما والترهل القابع في نخاع
عظامهما، والجهل الضارب في عمق عقلية المسؤولين والموظفين والمعلمين
والطلبة فيهما قادرتان على تخريج جيل من المتعلمين المثقفين الواعين على
أقل تقدير؟
أنا هنا لا أتحدث باسم أولوياء الأمور أو باسم الموظفين أو المعلمين أو
المدراء أو الطلبة أو المحاضرين أو الأساتذة الجامعيين، أنا أتحدث بلسان
المستقبل والأجيال العالقة بين مطرقة الجهل والتضليل والأمية المقنّعة
وسندان الوساطة والمحسوبية والفساد.
لقد تنازلنا عن كل الحقوق ورضخنا للأمر الواقع في كل الميادين وقطّعنا
ألسنتنا الصارخة في وجه الصلح مع إسرائيل والتطبيع مع إسرائيل والتحالف
الأعمى مع أمريكا والرفض المطلق لإيران، ونحاول جاهدين أن نغض الطرف عن
أوكار الفساد والاختلاسات والسرقات والتجاوزات التي تعيث في الوطن فسادا
دون أن تلجأ الدولة ولو لمرة واحدة إلى قانون المساءلة والمحاسبة لقطف
رؤوس قد أينعت وحان وقت قطافها منذ زمن موغل في القدم، ونتنحى اليوم عن
منصة الخطب الموجّهة نحو العنف ضد المرأة وجرائم الشرف والإساءة للأطفال
والفقر والجوع والجريمة وحقوق الإنسان، لقد تجاوزنا كل تلك المآسي في سبيل
أبسط حقوقنا البدائية في الإنسانية والكرامة.
أتألم ويستفزني الغضب والقهر وأنا أراقب ما يحدث من اغتصاب لحقوق أبنائنا
في أن يتعلموا بشكل علمي سليم ونزيه سواء في المدارس أو في الجامعات، لقد
شاء القدر أن أقترب من هاتين المؤسستين بعد طول انقطاع لتصدمني المفاجأة
بالانهيار الكامل والدمار الشامل الذي حل بهاتين الوزارتين ومؤسساتهما من
جراء الفساد والوساطة والمحسوبيات والقوانين التعسفية غير المدروسة
والقرارات الخاطئة غير العلمية والأساليب العقيمة غير المجدية، والمنهجية
الغامضة والضالة في أصولها ومصادرها والمتخبطة والمبهمة في مساراتها
واتجاهاتها.
لقد أصبحت العملية التعليمية عملية تجارية بحتة، والمديونيات التي ترزح
تحت كلاكلها الجامعات أخضعتها لقوانين استثمارية وأهداف تجارية وحوّلتها
إلى دكاكين لبيع شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه كوسيلة مقنّعة
لجني المال الذي تهدره وستهدره كما اعتادت أن تهدره الجهات الرسمية عينها.
نحتاج اليوم إلى الوقوف بحزم وقوة أمام المد الهائل للمافيات المنظمة وتلك
التي تعمل لحسابها الخاص في اجتياحها الشرس لمؤسساتنا التعليمية من وزارات
ومدارس وجامعات، نحتاج إلى أجندة وطنية ننفذ بنودها بما يتناسب وواقعنا
وقيمنا وثقافتنا وأبجديتنا الفكرية والتاريخية والعقائدية، وليس أجندة
خارجية تمليها علينا ثقافات وحضارات لا تمت لسمرة البشرة العربية بصلة.
مقالنا هذا ما هو إلا مقدمة سنفتح معها ملفات وزارتي التربية والتعليم
والتعليم العالي السجينتين وراء قضبان الفساد والترهل والمحسوبية والضياع
التي لا تدمي بأشواكها إلا أبنائنا وبناتنا ومستقبل الوطن.