الشتم ظاهرة بذيئة دائماً، لكنها ظاهرة ديمقراطية أحياناً!
قيض لي أن أعيش حيناً طويلاً من
الدهر في قاهرة المعز قبل سنوات، وقد شاءت الأقدار أن أحط رحالي في شقة في
شارع الشواربي العتيق، على بعد عشرات الأمتار من ميدان طلعت حرب الشهير في
وسط القاهرة. في مساء الخميس الأول من إقامتي هناك، وبينما كنت أتجول
مستكشفاً المنطقة المحيطة بمكان سكناي، وبمجرد أن اقتربت من الميدان، كاد
شعر رأسي يقف، بل إنه وقف بالفعل، لهول ما سمعت ورأيت، فقد فوجئت بجموع
غفيرة من الناس تملأ المكان، تطوقهم قوات الأمن ومكافحة الشغب من كل حدب
وصوب، وعلى إحدى الشرفات التي تطل على الموقع، يقف خطيب مستنفر وحوله جمع
من رفاقه، تتطاير من فمه عبر مكبرات الصوت الهادرة أقسى عبارات النقد
والهجاء والسخرية، التي تصل إلى حدود الشتم الفاحش للنظام المصري ورئيسه
ورجالاته. لا أكتمكم القول إن المفاجأة ألجمتني تماماً، وكنت أظن وقتها أن قوات
الأمن المدججة بالسلاح سرعان ما ستفتح النار على الخطيب \"المجنون\" وعلى
المتجمهرين في المكان، بحكم سكوتهم المتواطئ الشامت والباسم على ما يجري،
لكنني ذهلت حقاً عندما عرفت بأنني كنت واهماً، وأن ما يحدث بات يمثل
مشهداً طبيعياً ومألوفاً جداً هناك، وأن ذلك الميدان الذي تحتضن إحدى
العمارات المحيطة به مقر تجمع أحزاب المعارضة يشهد كل خميس تقريباً تظاهرة
صاخبة يتنافس المتنافسون فيها في شتم الحكومة والنظام والرئيس، شعراً
ونثراً، وبالفصحى والبلدي. طبعا أنا لست من أنصار الشتم والسباب والردح والقدح، فهذه أسلحة السوقة
والرعاع والغوغاء ومن تعييهم الحجة ويخذلهم البيان ويعوزهم المنطق، مع أن
الكثيرين من المسؤولين في العالم وفي وطننا العربي يستحقون حتماً ما هو
أكثر وأقسى وآلم من الشتم والسباب، ومع أن تلك الأسلحة العاجزة قد تمثل
أقصى ما يملك المرء أن يلجأ إليه في كثير من الحالات لشفاء بعض غليله،
لكنني تذكرت تلك المشاهد عندما قرأت مؤخراً خبراً من الأردن عن اعتقال بعض
البائسين بتهمة \"سب وشتم رئيس دولة أجنبي\"، ومن الواضح أن الرئيس المصري
هو المقصود، فوجدتني أتساءل: إذا كان الرئيس المصري نفسه يغض الطرف تماماً
هو وحكومته عن الشتائم التي يوجهها الناس إليهم جهاراً نهاراً في شوارع
بلده، مسجلاً بذلك لفتة ديمقراطية تستحق التنويه بالرغم من كل ما يمكن
تسجيله من مآخذ على سياسات النظام هناك، أفنأتي نحن ونتصرف كما لو كنا
أكثر حرقة من الرجل على نفسه، فنعتقل في ديارنا من ينتقده بكلمات لم
تتجاوز ـ كما قرأنا على أكثر من موقع إلكتروني ـ حدود الانتقاد؟ ثم إنني أشك في أن نجد مسؤولاً عربياً واحداً لم يفلت زمام أعصابه في بعض
المواقف ويجد نفسه يكيل الشتائم لهذا الرئيس أو ذاك، فقائمة الرؤساء الذين
جعلتهم سياساتهم الخرقاء في أنظار الكثيرين هدفاً شرعياً ومستباحاً لسهام
الشتم، بل وللقذف بالأحذية، طويلة وممتدة. في الولايات المتحدة الأمريكية
مثلاً، كأنموذج للأنظمة الديمقراطية العتيدة ـ بالرغم من بعض ما حاق
بمبادئ تلك الأنظمة من تخلخل بسبب الهلع الذي ينتاب القوم هناك مما يسمونه
الإرهاب ـ تفنن الناس في شتم الرئيس السابق بوش مثلاً، ولم يتركوا وسيلة
من وسائل التشنيع عليه إلا واعتمدوها، حتى أنهم صاغوا مجسمات تشبّهه
بالكلب والخنزير والحمار وساروا بها منتشين في الشوارع، بل إن كثيراً منهم
يتحاشى ذكر اسم ذلك الرئيس، ولا يشير إليه إلا بتلك الشتيمة الشهيرة
المتعلقة بالأم، التي نسمعها تتردد في الأفلام الأمريكية كما السلام عليكم. غريب أمرنا حقاً نحن العرب، قبل أيام، نشرت الصحف الإلكترونية الأردنية
خبراً عن اكتشاف غطاء منهل محفور عليه اسم الله جل جلاله، نعم اسم الله
تدوسه الأقدام والنعال بعد أن تم نقشه من جانب مصنع ربما كان أردنياً على
غطاء فتحة تهوية للمجاري، ولم نسمع أن قيامة الحكومة قد قامت، ولا أظن أن
أحداً قد اعتقل حتى الآن على ذمة تلك الجريمة الفظيعة، كما أننا نادراً ما
نسمع باعتقال من يتجرأ على سبّ الدين أو الذات الإلهية في شوارع مدننا
العربية \"المسلمة\"، فكرامة الدين وكرامة اسم الله فيما يبدو هما أهون
عندنا بكثير من كرامة هذا المسؤول أو ذاك. حسب الأعراف الديمقراطية، في اللحظة التي يوافق الإنسان فيها على أن يصبح
\"شخصية عامة\" يصبح ملكية عامة مستباحة للرأي العام، فيفقد الحق في
الاعتراض على تذمر الناس ونقدهم وربما شتمهم إذا ما أغضبهم أو خذلهم أو
خرج عن توقعاتهم، حتى وإن بالغت تلك التوقعات في المثالية والشطط، وهذه
أقل ضريبة يدفعها مقابل ما يغمره به موقعه العام الذي استمات للوصول إليه
من سلطة ونفوذ وشهرة وامتيازات لا حصر لها، ومن لا يحتمل تلقي السباب وفظ
الكلام، كما يطرب لسماع الثناء والمدح والإكرام، فليتنح عن منصبه، وليعتزل
العمل العام. د. خالد سليمان sulimankhy@gmail.com
|
|