"الاحتلال" بأبشع أشكاله "ماركة مسجّلة" من نصيب إسرائيل، وهي تتوغل في أبشع مظاهره، ولم يعد ذلك يقتصر على احتلال الأرض وقتل البشر وتدمير الشجر والحجر، بل يتعداه لسرقة التاريخ والآثار والفلكلور والأكلات الشعبية. واستيلاء إسرائيل على مخطوطات البحر الميت، والادعاء بأنها جزء من التراث والتاريخ اليهودي يقع في السياق ذاته الذي تنطلق منه إسرائيل حين تحاول الاستيلاء على أكلة الحمّص أو الفلافل أو التبولة...، وتقديمها إلى العالم على أنها جزء من "المطبخ اليهودي"!
وقد أشار الشيف اللبناني الشهير رمزي شويري في مقابلة قبل أيام مع قناة "العربية" أنْ لا وجود لهذا المطبخ في الحقيقة، لأنّ ما هو قائم بالفعل ما هو إلا تجميع عشوائي وانتقائي و"مفبرك" لمجموعة من الوصفات غير الأصيلة التي جلبها المهاجرون اليهود إلى الأرض الفلسطينية من بلدانهم الأصيلة المتعددة الوجوه والمشارب.
وينبه الشيف رمزي إلى خطورة ما تفعله إسرائيل، حيث إن أيّ نجاح إسرائيلي في تسجيل براءات لهذه الوصفات على أنها إسرائيلية يعني حرمان العرب من حق تقديمها في مطاعمهم إلا بإذن وموافقة إسرائيلية، وإلا وقعوا تحت طائلة المساءلة القانونية. ومن هنا لا ينبغي أخذ الأمر باستخفاف وقلة اكتراث.
ومن جديد، يتكرر التساؤل عن ردة الفعل الرسمية الأردنية (هل نقول الفاترة نسبيا؟) تجاه استيلاء إسرائيل على لفائف البحر الميت، ويكاد الحدث يغيب في زوايا الظل. ومنذ رفض الأردن المشاركة في مؤتمر تورنتو بكندا جراء علمه بمشاركة إسرائيل بلفائف البحر الميت، لا نرى أن المسألة أخذت من جهدنا واهتمامنا ما تستحق، إذ مع المتابعة يتبين أن هذه المخطوطات لا تنطوي، فقط، على قيمة تاريخية وأثرية مهمة جدا، بل كذلك على كنز معرفي مذهل، خاصة في مجال الدراسات الدينية.
وقد أشار الباحث المتميز محمد السماك ("الاتحاد" الإماراتية 22/1/2010) إلى أنه صدر حتى الآن أكثر من أربعة آلاف كتاب حول مخطوطات البحر الميت. إلا أن جزءاً كبيراً من هذه المخطوطات بقي خارج التداول العلمي بقرار إسرائيلي. ومن الإشارات التي يوردها السماك عن بعض مضامين تلك المخطوطات، مثلا، أن تعاليم نوح عليه السلام كانت تحرّم شرب الدم وتقديم القرابين للتماثيل المؤلّهة (الوثنية)، كما كانت تحرّم الزنى وأكل الحيوانات المخنوقة أو النطيحة.
ويستشهد العالِمان روبرت إيزمان وم. وايز في كتابهما "الكشف عن مخطوطات البحر الميت" (1992). (ص 34 ) بالآية القرآنية: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ويلاحظ الكتاب أن تشريعات نوح هذه تلزم كل بني الإنسان من الصديقين، وأنها ترد ثلاث مرات في إنجيل يوحنا وفي النصوص اليهودية.
وفي المخطوط رقم 251 (قمران الكهف الرابع) نقرأ ما يلي: السطر الثاني: "على الرجل ألا يتزوج من شقيقته، أو من شقيقة والده أو من شقيقة والدته".
ويعلّق السماك:إن هذه التحريمات لا يلتزم اليهود اليوم بمعظمها. فالمرأة تتزوج خالها أو عمها... الخ، خلافاً لما نصت عليه التعاليم اليهودية كما تؤكدها هذه المخطوطة. وقد جاء القرآن الكريم ليؤكد هذه التحريمات بوضوح تام في سورة النساء (الآيتان 22 - 23)
وتدلّ هذه الإشارات المختصرة والعابرة إلى أهمية هذه المخطوطات، ليس فقط من حيث إنها ثروة تاريخية كبرى، ولكن من حيث إنها فوق ذلك ثروة معرفية تؤكد "وحدة الدين وتعدد الشرائع".
من أجل ذلك، تحتفظ إسرائيل بسرية مضمون بعض المخطوطات.. التي قد تكشف عن زيف الانحرافات وعن التوظيف السياسي للدين.