زاد الاردن الاخباري -
منذ عشرين عاماً وأنا أمنع نفسي التحدث عن التلفزيون الأردني، ومنذ أربعين عاماً وهذه المؤسسة تتحول تدريجياً من قناة عربية مهنية محترفة منافسة لتصبح قناة عادية، تشبه غيرها من المحطات المتواضعة، وكذلك وعبر السنين، تحوّلت المؤسسة لتصبح هدفاً سهلاً لمزاج أي مسؤول قد يمتلك حق الإستيلاء على قرار فيها، أو يبحث عن كل وسيلة "ليتفنن" في قهر الناس ومضايقتهم من خلال الشاشة الأردنية، قصداً منه أو ظناً أنه يقدم للناس ما يريدون، وتغيرت الدنيا ولم يتغير التلفزيون الأردني، وظهرت قنوات فضائية عالمية وعربية حديثة والتلفزيون يتراجع، وظهرت قنوات أردنية منافسة والتلفزيون يتهاوى، ومنذ محمد كمال، رحمه الله، لم يتولّ قيادة هذه المؤسسة خبير إعلام حقيقي، ولا أحد يدري كيف تنتشر حولها الشائعات بأنها بؤرة للواسطات والمحسوبيات أو لمعارك بين بعض الموظفين أو لتصفية حروب وهمية بين الحكومات والمعارضة، ثم أصبحوا يقولون عنها في النهاية أنها قناة ضعيفة هزيلة تتعرض للنقد والإساءة وموقعاً للتعينات الطارئة والعاجلة التي تأتي بها الإستحقاقات والمجاملات فقط، وقد قمت شخصياً بعمل دراسة وتحليل لكافة ما كتب وقيل عن التلفزيون الأردني وما ورد عليها من ردود وتأويلات وتعليقات في كل مكان، ومنها الكثير ما ورد على ألسنة الموظفين الزملاء الإعلاميين والإداريين والفنيين، ووجدنا أن هذه الشائعات والأقاويل متفقة على ما ذكر أعلاه.
الحقيقة التي يجب نتفق عليها في البداية، أننا لا نوجه أي إتهام لمسؤول حالي أو سابق، أو تقديم نقد وتحليل لأداء أي مهنم، فهذه قناتنا جميعاً، وتعبر عنا جميعاً، شئنا أم أبينا، فهي تحمل اسمنا جميعاً، لذلك نهتم بالنتائج التي حققتها والمكانة التي وصلتها، وكيف نود أن نراها في المستقبل، والنتائج تقول أنها غير منافسة، ولنعترف أنها ليست على قائمة القنوات الأولى إعلامياً وإعلانياً، كذلك فإنني لست في موقع للدفاع عن زملاء شعروا بمثل ما أشعر، وكتبوا نقدا حول التلفزيون الأردني، كالزميل خالد محادين والزميل حازم المجالي وغيرهم، والذين ساقتهم الأقدار للقضاء، والوقوف أمام المدعي العام ليبرروا حرصهم وحبهم ومتابعتهم وتدقيقهم بكل ما هو أردني، او يحمل تلك الهوية أمام الناس! فهذه العاطفة، تشبه عاطفة جميع أبناء الوطن، الذين يحبون أن تصبح قناتهم الأردنية، هي الأولى والمنافسة والمتفوقة عربياً وعالمياً، بعيدا عن رغبات المسؤولين والحكومات أو الحاسدين وأصحاب المطامع الشخصية، ولذلك ظننتُ، كمتخصص وككاتب ومواطن، أنه لا يحق لي، بعد اليوم، أن أقف متفرجاً، كأن الأمر لا يعنيني.
منذ عام حوالي عام 1999، قدمنا استشارات لعشرات القنوات التفزيونية العربية العاملة، وكذلك قمنا بإنشاء وإصدار قنوات عربية، من الألف إلى الياء، مشتملة على شخصيتها وهويتها وبرامجها وكوادرها، ونعلم أن قنوات كبرى في الوطن العربي، تدر مئات الملايين، يقوم على إصدارها بضع مئات من المؤهلين المتخصصين فقط، وبالمقابل، وحسب معلوماتي، فإن لدى التلفزيون الأردني اكثر من 3000 موظف، ينتجون قناة ليس لها هوية ملفتة ومركزة ودقيقة، والعيب ليس في الموظفين، فالتلفزيون الأردني مدرسة خرّجت الكثير من الكفاءات، العيب في بعض الإدارات التي تولّت مسؤولية هذه المحطة، فكانت تُصدر قرارات متلاحقة متخبطة، ولم نسمع أن خبير إصدار واحد قد حصل على ضوء أخضر للتغيير ولإصدار قناة تلفزيونية متميزة، ونقصد بخبير الإصدار هو الخبير المتخصص بوضع هوية وشخصية ومخطط عام وبرامج وكادر "فريق" مؤهل خبير يعمل بروح الفريق الذي يتابع ويرصد ويحلل ويستحوذ على سوق الإعلان وينافس المحطات الأخرى، منافسة شديدة، لماذا لا؟ أليس التلفزيون مدرسة كما ذكرنا؟
لا أستطيع الصمت، لكني احذر بأعلى صوتي، ولا تقولوا أن أحدا لم يحذر من قبل، أن هناك من فهم ضعف التلفزيون الأردني، وضعف المحطات الأردنية، لكنه يرى أن السوق الإعلاني في الأردن مفتوح، ويخطط الآن، بالتعاون مع أردنيين معروفين، لإصدار قناة عربية تستحوذ على سوق الإعلان كاملاً، وهذا حق طبيعي مكفول حسب القانون، ولكنه إذا حصل، وسيحصل في القريب العاجل، سيكون التلفزيون الأردني عاجزاً عن إيجاد إعلان واحد، مما يعني، أن المؤسسة سوف تغلق أبوابها، وسوف يُلقى بموظفيها في الشارع، وأرجو المغفرة بشدة على تعبيري.
ستسألون ما الحل، لابد من ذلك، ونقدمه – مجاناً- لهذه الحكومة، ونأمل أن تتم دراسته، وهو بالمناسبة حلٌ قدمناه لمحطات مماثلة، عانت من مثل ما عانته الشاشة الأردنية، وهي أن يتم العمل على استقطاب خيرة الخيرة من موظفي التلفزيون، والبدء بإنشاء قناة موازية، يتم تصميمها بشكل جيد جداً، ويكون لها هوية مميزة، مع بقاء التلفزيون الأردني على حاله دون تغيير، ودون تبديل في أي شيء، وحين تكون المحطة الجديدة جاهزة للإنطلاق، تصبح هي القناة الأولى الرئيسية، وتبقى القناة الثانية، القديمة، للمحليات فقط، أو تبقى على حالها، أو إيجاد فكرة عملية، اسثمارية، جاذبة وقادرة على تحقيق مردود يصل إلى حجم نفقاتها، أو إغلاقها.
وحتى تكون النصيحة كاملة، يجب الحذر من عمل تعديلات على الوضع القائم، تعديلات تشبه عمل الإسكافي، لأن ذلك "يزيد الطين بلة"، يقول "هيرمان ملفل"، مؤسس الأدب الأمريكي في روايته المعروفة "الموبي ديك" حين طالب "ستاربك"، وهو مساعد القبطان آخاب، من نجار السفينة أن يصنع قوارب نجاة ولم يجد النجار سوى خشب توابيت الموتى؛ فتعجب النجار من المفارقات التي تستدعي أن تكون التوابيت هي قوارب النجاة، وقال : "لا أحب أن أمس بيدي إلا مهمات نظيفة بكراً رياضية قلبا وقالباً، أموراً تبدأ بإنتظام في البداية وتكون في الوسط حين تبلغ الوسط وتأتي إلى النهاية عند الختام، لا مهمات إسكاف تكون منتهية في الوسط، وعند البداية تكون في النهاية..".
"النصيحة كانت بجمل في الماضي"، ولا نريد منكم سوى محطة تلفزيونية أردنية متفوقة تليق بمستوى الخبرات والكفاءات الأردنية الإعلامية، وتليق بهذا الوطن العزيز.