محمود أبو فروة الرجبي
هل نحن بارعون في تحويل أكبر عناصر القوة والتقدم في ديننا، إلى عوامل ضعف، وتخلف؟ هذا ما لاحظته من خلال تحليلي لبعض الحوارات التي تجري بين الناس العاديين، والتي يمكن إدخالها ضمن الخطاب الإسلامي، ومن خلالها يتضح اننا استخدمنا مفهوم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، لنجعل منه وسيلة أضعاف للأمة، بدل ان تكون تقوية لها.
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من الأعمال الواجبة في الإسلام، بل ان بعض العلماء ومنهم على سبيل المثال (سلمان العودة) يصفها بأنها مهمة لحفظ كيان الأمة، وحمايتها من العذاب الإلهي، وتنفيذا لهذا الحكم، فإن المسلم العادي يحاول في جلساته، ولقاءاته الحديث عن المخالفات الشرعية التي قد تحصل في المجتمع، بهدف إقناع الآخرين بحرمتها أولا، ثم التأثير عليهم، لتركها، ومحاربتها.
المشكلة التي نعاني منها، تأخذ ثلاثة أشكال؛ الأول بطريقة تنفيذ هذا الأمر، التي تتخذ أحيانا أساليب عنيفة، وغير لائقة، وفيها تدخل سافر بالآخرين، وربما إساءة إليهم، وذلك كله مخالف لآداب الشريعة الإسلامية، ويفرغ مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهدافه، وهذا ما سنناقشه في مقال قادم، والشكل الثاني مضمون هذه الأوامر والنواهي، في الجانب الاجتماعي تحديدا، والثالث هو عدم وجود خطاب بنائي بديل في الخطاب الفردي الإسلامي في غالب الأحيان، يعطي نماذج عملية، وبديلة للناس كي يستطيعوا محاكاتها، وتطبيقها في حياتهم، لتتطور وتصبح أفضل.
في الخطاب الفردي للمسلم العادي، فإننا نلاحظ عادة ان هناك تركيزا كبيرا على انتقاد ملابس الفتيات، وقصرها، وضيقها، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وتغير الدنيا، وتقليدنا للغرب، ووسائل الاتصال الحديثة التي (خربت الدنيا)، وكيف كانت الدنيا زمان أحسن بالمقاييس جميعها، ورجال آخر زمن الذين تحولوا إلى أرانب بحيث تحكمهم امرأة – لا راحت ولا اجت-، وهم أصحاب لشنبات تحمل صقورا، والمؤامرة الكبرى التي تحاك ضدنا خاصة بخصوص الأسرة، ناهيك عن استخدام عبارات سلبية مشحونة بالعنف، او التحضير للتعرض لغزو ثقافي وأخلاقي دائم.
بعض ما يرد في هذا الخطاب مشروع وصحيح، ولكنه في الغالب يهوجس (أي يزرع هواجس) في العقل المسلم، تجعله يدخل أحيانا في مضمون المثل الغربي الذي يقول: (أصحاب العقول الضعيفة مثل النظارات المكبرة التي ترى الأشياء الصغيرة كبيرة، ولا ترى الكبيرة).
لذلك، فإن أمورا، وظواهر مقلقة تحصل في المجتمع، ولكنها لم تدخل الخطاب الفردي الإسلامي بشكل كاف، ولم تتحول إلى أحاديث يومية، يمكن ان (تتهوجس) مع مرور الوقت لتساهم في تغيير المجتمع إيجابيا، ومن المعروف ان تغيير الأمور السلبية في المجتمع يصير أسهل إذا أصبح هذا التغيير هاجسا مسيطرا على العقل الجمعي للأمة.
فقلما نسمع في هذا الخطاب مثلا انتقادا للاهمال في العمل، وثقافة عدم الإتقان، وظلم المرأة، والغش في كل شيء، وعدم النظافة، ومعرفة الواجبات، والحقوق، وضرورة احترام الآخرين، والتفكير بطريقة علمية، والتقيد بالقوانين والتعليمات، وتطوير الذات، وفوق كل ذلك الوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي، وضرورة سيادة مفهوم الانتماء الحقيقي للوطن.
بل والاخطر في هذا الخطاب هو المجاراة، فلو سمع أحدهم شخصا يهاجم المرأة مثلا، ويدعو إلى رجوعها إلى البيت، وعدم تعليمها، فإن الآخرين غير مستعدين في العادة لنقده، بل ينساقون معه في طرح أمثلة مسيئة للمرأة حتى لو كان موقفهم الداخلي غير ذلك، وهذا مثال يمكن تعميمها على قضايا أخطر مثل التجييش ضد فئات المجتمع المختلفة، والشحن السلبي المسيء للوحدة الوطنية.
والاخطر من هذا كله هو دخول بعض علماء الشرع هذا الجانب، من خلال خطابهم الفردي، وعدم استعدادهم لمخالفة ما تؤمن به العامة حتى لو كان مخالفا للشرع، فهناك خوف من قول رأيهم بحل بعض المسائل التي يحرمها المجتمع مثلا، مع ان الشريعة لا تحرمه، مجاراة لعقلية البعض التي تستمع بالتحريم، ولا ترتاح للتحليل.
إذا استطعنا إعادة بناء الخطاب الفردي بطريقة صحيحة، وضمن أولويات العصر، اضعين أيدينا على مواطن الخلل، فإن الأمور ستتغير، ووقتها سيجاب على سؤالنا الدائم الذي نقول فيه: ترى.. هل سيأتي زمان ينتفض فيه المسلم العادي استنكارا حينما يرى أحدهم يرمي القمامة في الشارع، أو يخرب شيئا من الأملاك العامة، أو هل سنرى الدنيا تقوم، ولا تقعد لأن أحدهم أخرج ابنه من المدرسة، أو لأن شخصا ما خالف القانون؟
إذا حصل ذلك، فإننا نكون قد بدأنا نسير على الطريق الصحيح، وفهمنا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الشامل، وادركنا ان أولويات هذا الخطاب تتغير بتغير الأزمان، والأمكنة.
ولن ننس هنا إلى ان هناك أقلية موجودة في المجتمع تفهم هذا الأمر جيدا، وان معظم الناس في مجتمعنا طيبون في دواخلهم، ولكنهم يحتاجون إلى زرع ثقافة مختلفة، تبرمج ردود أفعالهم، وانفعالاتهم، لتضبطها بالمقدار الصحيح، وبالاتجاه السليم، لنكون قادرين على العودة إلى دائرة الإنتاج الحضاري المتميز.