أيام زماااان, استذكرتها قبل أيام في جلسة عائلية طغى عليها العنصر الشبابي الذي لم يواكبها عمرا أو يتنشق شذاها ولا لفحته بركاتها وطيبتها. سألني بعض شباب الجلسة, وما الأحسن في أيام زمان؟ فقلت بعد أن تأوهت طويلا :
أيام زمان يا أولاد اخوي كان لها طعم ولون ورائحة, حتى الماء فيها كان كذلك. فاستهجن البعض واستنكر, المية يا زلمة؟ بلون وطعم ورائحة؟ قلت, نعم ولكن لون وطعم ورائحة الماء, ولا كلور ولا فلاتر ولا مطيبات. يا الله شوه كان الشاي لذيذ من مية البير أو من مزراب السطح.
أيام زمان يا شباب كانت بسيطة, بالشتاء حراث وبذار, وعبق الأرض الفاتحة ذراعيها لاستقبال حبوب الخير من قمح وشعير وقطانة, وفي الصيف حصيدة وبيادر وأمل بموسم جيد يمكن الناس من تزويج أبنائهم وسداد ديناتهم البسيطة عن ثمن البذارات. وأطفال يحوطون الفلاحين على البيدر وهم يكيلون الحنطة في شوالات أبو خط احمر ينقل بعضها إلى الكواير للتخزين, ويباع بعضها من أجل زواج الولد البكر أو الذي يليه. أما الأطفال فلا يخرجون من المولد بلا حمص, فمن راس الكوم يأخذون \"براكتهم\" في شفال القميص, يركضون بها إلى أقرب مول, عفوا أقرب دكانة أم ثلاثة رفوف يتيمة يبتاعون الراحة والبسكوت والهريسة. على فكرة كان مرض السكري آنذاك ورغم هذا غريبا علينا وليس مستوطنا لدينا كما اليوم.
أيام زمان يا أحبتي كانت أعراسا ومناسبات تجمع القرية كلها, فلا أحقاد ولا ضغائن ولا دسائس, رغم أن الشتاء كان قد شهد أكثر من طوشة على من \"يقني\" لبيره قبل الآخر, وبعدها في البيادر عندما تستحلي بقرة فلان جرزة قمح من بيدر علان, وطالما استخدمت المناسيس والشواعيب والمذاري كسلاح أبيض في المناوشات السنوية هذه. ولكنها كانت تنفض عن كدمات وبعض الطرحات والخدوش الجسدية والتي لا يعقبها خدوش نفسية وغل مستديم.
أيام زمان يا قرايبي كانت رمضان كريم حقا, قبل الإفطار صحون رايحة وصحون جاية, وتجمعات طيبة على مائدة الإفطار, فيها البركة وبسيط الطعام مع سلطة الفجل بالليمون وزيت الزيتون هل تعرفون سلطة الفجل؟ يا الله كم هي لذيذة أيام زمان. والقطايف, كانت غير شكل أيام زمان حتى بدون القيمر والقشطة والفستق الحلبي والعصافيري وغيرها.
وبعد الفطور, قهوة وشاي وسهر حتى السحور, وألعاب جماعية كان أهمها وأوسعها انتشارا لعبة الصينية, وما أدراك ما الصينية. تنقسم المجموعة الرجالية إلى فريقين, يستخدمون صينية وتسعة فناجين وخاتم يخبئه فريق منهم سرا تحت احد الفناجين التسعة بمراسيم وبروتوكول مرح له هو الآخر لون وطعم ورائحة, ثم يطلب من الفريق المنافس استخراج الخاتم بأقل عدد من فتح للفناجين المقلوبة. يا الله كم كانت منافسة الكبار جميلة وشيقة وودية على الخاتم. وهناك كان خبراء في لعبة الصينية, بعض علم النفس والخبرة بناسه وجيرانه كان يميز بعض اللاعبين عن البعض الآخر ويمنحهم قصب السبق, ويحاول الجميع دائما اختيارهم ضمن فريقه. والمرحوم \" رزق العبد الله \" يا الله كم كان صاحب فكاهة ونكتة, كان يرافق اللعبة بأمثال ونوادر وتشبيهات بنت ساعتها وليست مكرورة سمجة كما هي اليوم وليدة النت والمسجات الهاتفية. المرحوم أبو محمد كان يخترعها لتوه فيضحك الجميع ويدخل البهجة والسرور إلى قلوبهم. كان رحمه الله يستخدم كل حواسه وأطرافه في التهريج, وحتى \"إيد المهباش\" ولهذه قصة مستقبلية لمن لا يعرفها.
كان لهذه اللعبة أيضا استراتيجيات وخطط ودهاء وربما بعض الغش اللطيف باستخدام الممنوعات للاستدلال على مكان الخاتم, كأن يستخدم البعض المرآة للتلصص على مخبئ الخاتم, أو ربط الخاتم مسبقا بشعرة دقيقة يستشعرها خارج محيط الفنجان الذي يحوي الخاتم دون غيره, وحتى اكتشاف هذه الممارسات الممنوعة كان لا يثير ضجة ولا يسبب حربا, ولكنه كان سببا لإلزام الفريق الغشاش بثمن هريسة الليلة حتى وإن ربح اللعبة.
وفي النهاية, كانت الهريسة سيدة الموقف. فهي شرط على الخاسر من الفريقين. ينتظرها فريق الأطفال والنسوة بفارغ الصبر. ولكن السكري لم يكن همهم رغم الإفراط بتناول الهريسة والحلقوم والحلاوة الطحينية.
استراحة المحارب هي هذه التي فضفضت بدقائقها عن أيام زمان, وسوف أغفل قليلا الحكومة وسمير قبل أن أعاود الكر والفر اليهما. الله كم كانت حلوة أيام زمان, وأحلى ما بها أن سميرا لم يكن مخلوقا أو مسؤولا آنذاك, في حين أن رزق العبد الله رحمه الله كان رئيس وزراء الصينية وباقتدار.
جمال الدويري