ما كان يخطر ببال احد من أبناء الوطن الذين جاهدوا وناضلوا ودفعوا من أعمارهم سجون وعذاب واهانة ومنع من السفر والعمل وحرمان من مواصلة دراساتهم لمجرد أنهم كانوا يحلمون ويطالبون بوطن ديمقراطي قوي يمنح الناس حقوقها الديمقراطية ، ان يتحول حلمهم الى كابوس لم تعد فيه طبقة الحكومات وحدها تمارس التسلط والفساد والتحكم بقوت الناس وكنا نعتبرها ظاهرة لدى البعض يمكن لجمها وتضييق الخناق عليها ، لكنها ورغم ما كانت تتصف به من فساد واعتداء على المال فقد كانت وبحكم قانون الطوارئ الذي امتد أكثر من عقدين تحيل العديد من الفاسدين والمعتدين على المال العام إلى محاكم عسكرية تأخذ حق الوطن منهم ، وكانت تتابع اداء الموظفين وتراقب ارتفاع الأسعار وضبط الجودة ومنع أصحاب السوابق من الوصول إلى مواقع المسئولية في مؤسسات الدولة وعلى رأسها البلديات او لعضوية السلطة التشريعية حينذاك وهو المجلس الوطني الاستشاري الذي كان يتميز أعضائه وباختلاف عقائدهم واتجاهاتهم وعشائرهم تجربة لا بأس بها تمنح المواطن الثقة برجال وطن ليس منهم أصحاب مصالح خاصة يجيرون أصوات شعبهم لتحقيق المزيد من المكاسب على حساب أحلامهم كما الحال اليوم .
جاءت الانتفاضة الشعبية عام 1989 ضد توجهات الحكومة وقراراتها الصعبة التي زادت من أعباء الناس ونقل الأغلبية منهم من الطبقة المتوسطة الى الطبقة الففيره ، فكانت الاستجابة حينها في الدعوة إلى انتخابات برلمانية عامة أشاد الجميع بنزاهتها وهي خطوة اعتبرها البعض فاتحة خير على البلاد والعباد لأنها أحدثت فارقا واضحا في وعي الناس واتجاههم ورغبتهم الأكيدة المساهمة الحقة ببناء الوطن وتمتين أساسه الذي كادت سياسة الحكومات السابقة وسلوك أفرادها تحيله الى خراب ، فانتقل المواطن الأردني الى نحو العصرنة والتحضر والابتعاد عن التقوقع خلف العشيرة وبات يبحث عن الأفضل للوطن وإمكانية اختيار الأفضل وهذا ما حدث إذ أن الناس استطاعت انتخاب شرائح وطنية بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم وشكل المجلس وحدة وطنية حقيقية جمعتهم في مجلس واحد لم تسمح للسلطة التنفيذية حينها الاقتراب من مصالح الفقراء ومكاسبهم ، وتميزت تلك المؤسسة كمؤسسة تشريعية تراقب أداء الحكومة وتحاسبها ولم يطالب أعضائه بتحسين أحوالهم ومنحهم الامتيازات التي حصل و طالب بها من تبعهم لأن همهم كان الوطن والحرص على المرحلة وليس على المصالح ألضيقه .
الحلم لم يتحقق ، حدثت انتكاسة كبيرة بعد ثلاثة أعوام حين أصدرت الحكومة قانون الصوت الواحد الذي أعاد الناس إلى مربع التقوقع العشائري والمنطقي وعدم الاكتراث بغير مرشح واحد بغض النظر عن اتجاهه وانتمائه وتاريخه وطبقته الاقتصادية ، وانتشرت معها النزاعات العشائرية والمنطقية وصراع القرى والمدن ( قصبة وقراوي ) وأسست لاحتقانات نرى نتائجها هذه الأيام على شكل مشاجرات في مختلف محافظاتنا بين أبناء عشائرنا حتى في الدائرة الواحدة ، وأبرزت فوق ذلك طبقة من اللاهثين خلف مصالحهم ومصالح فئاتهم الضيقة التي دفعتهم لتشكيل تحالف مع الحكومات لم نعد نميز بها أي السلطات هم تشريعية ام تنفيذية !! فتفرق الجمع وتعرضت وحدة الناس من مختلف أصولهم ومنابتهم إلى ضربة موجعة أعادت كل منهم إلى مربعه الأول متقوقعا خلف منبته واصله تعكس نفسها كسلوك غير حضاري في المؤسسات الحكومية والتعليمية والاقتصادية ، وأتاحت للحكومات فرصة تحميل المواطن مديونية عظيمة لا ذنب له فيه عبر مسلسلات رفع الدعم وفرض الرسوم والضرائب ورفع الأسعار وتجميد الرواتب واستطاعت طبقة التجار والمحتكرين للسلع الأساسية الاستفادة من ذلك الوضع فاستمالت أعضاء الحكومات وبعض النواب وأشركتهم في الصفقات على شكل هبات وسمسرة وتخفيف من ضرائب ورسوم ومنحهم الإعفاءات والحماية ما كانت لتكون لو ان الأمور سارت على ما كان يحلم به المواطن .
الحكم العرفي كان جعل الفساد ظاهرة لم تتسع و محددة ببعض الأفراد فقط يعرفهم الناس جيدا ، وكان التاجر والوزير وعضو المجلس البلدي والموظف البسيط الذي يقدم خدماته للناس دون مقابل يخشى عواقب تجاوز صلاحياته وحدوده ان فكر لمجرد التفكير طلب رشوة او سمسرة مقابل الخدمة . وانتقل الحال بفعل تراجع الديمقراطية وحق الناس في التعبير والتضييق على القوى الوطنية والأحزاب والشخصيات وإخلاء المجالس النيابية والبلدية من هذه الرموز إلى أن يصبح الفساد مؤسسة وثقافة تنتشر في اركان البلاد يقودها جنرالات ينتشرون في الحكومات والمجالس النيابية والبلدية وطبقة التجار والمحتكرين وأصحاب المصالح المحمية بفعل الشللية والمحسوبية ، فهل نترحم على زمن الأحكام العرفية التي حالت دون الوصول إلى ما وصلنا إليه من انهيار اقتصادي واجتماعي وسياسي في سالف الزمن ! ، بكل تأكيد لا ، ولا نرحب بعودتها ، لكن ما يجري من هدم وتدمير وإضعاف لأركان وطننا يجعلنا نتمنى يوما واحدا من أيام تلك الحقبه من اجل إصلاح الخلل بكافة مناحي حياتنا ومن ثم العودة من جديد لبناء اردن خال من جنرالات الفساد .