هذا خطاب من رجل مجنون،،،يعيش بالغربة داخل أوطانه منذ خمسة وأربعون عاماً
وهل قرأتم خطاب لرجل مجنون قبل هذا اليوم،،،
اسمي،،،لن أتفوه باسمي اليوم،،، وأعلم أنكم تهتمون بالأسماء،،،اسمي هاشم،،غاشم،،قاسم،،أبو فلان
فكثير منكم يهمه فقط الأسماء.
أكتب إليكم اليوم من على سرير الشقاء،،،اتهمت بحب الأوطان،،،وكان عقابي المنفى،،،إلى،،،
بلاد الله الواسعة،،،حزمت أمتعتي بحقائبي السوداء.فقد تعبت وأتعبني التعب.
منذ العام الذي يسبق ميلادي بعشرة أعوام،،،أنتظر طائرة،،،ولغاية هذه اللحظة،،،أبت الهبوط
حزمت حقائبي اليوم،،،وكانت تفوح منها روائح الصنوبر،والتين،والعناب
فبكت علي الطيور،،،وذبلت كل الزهور،،،وأقفلت العصور،،،
وانطفأت الشموس،،،وحّل الظلام الدامس داخل أرضي،،،
وضاعت مني كلماتي،،،أمام أصنام ،،،وهل يوجد كلام لأصنام
ورفضت عيوني النوم،،،وضاق صدري،،،وماتت كل أحلامي
وكبرت همومي لتصبح بحجم الجبال،،،وما زالت حقائبي هناك
أبي وأمي يرفضون مصافحتي،،،ويصرّون علي البقاء هنا فضاعت حقائبي بمطارات العالم
وأصبحت جراحي كبيرة،،،تكاد لا تلتئم،،،فالأمسً لن يعود ولا أظنه أصلاً موجود
هاجر أصدقائي الأمكنة منذ أزمنه،،،ولم يتبقى لي سوى صديق واحد مصاب بالجنون قد أجهز على نفسه مرات ومرات فهو بحكم الميت،،،ولا يتذكر شيء،،،فهو بحكم المفقود.
وأنا اليوم تعصف بي الأرياح والهموم،،،والرعد والبرق،،،أحرق أرضي الجرداء.
مات اسمي،،،وتبعثرت حروفي
أجمع اليوم بقايا جروحي،،،وهمومي،،،وبقايا أنيني،،،
أسهر الليالي على الآلام،،،بدون أوراق ولا أقلام.
فكبر همي وأصبح كالبركان،،،وسقط ما سقط مني،،، من أوراق ومن بقايا أشواق بين الزقاق.
جروحي اليوم عميقة،،،عمق البحار والمحيطات،،،فبكى علي الآن الشجر والحجر.
وما زلت أنتظر تلك الطائرة،،،لا أحمل معي سوى ذكريات.
رسائل قديمة،،،صور لأصدقاء،،،صور مدينتي الحبيبة،،،وصور لمدرستي،،،القديمة
التي تحولت إلى سجن الأشقياء ولا يسمح لي بزيارتها ولا أخذ بقية أقلامي ودفاتري.
قطار عمان،،،غير مسموح ملامسته،،،وسيل عمان،،،قد تبخرت مياهه منذ أزمان.
وجيران الحي قد رحلوا منذ سنين،،،وقطط الحي ما عادت حبالى،،،وأشجار الحي قطّعوها
لدفئ الشتاء،،،فما عادت أشجار ولا أمطار ولا أقدار،،،قد أزالوا كل معالم المكان،،،وماتت كل الذكريات
وما زلت أنتظر،،،لهذه الساعة الجنونية طائرتي،،،فضاعت مني حقائبي والى الأبد.
فأنا اليوم مسافر بحقيبة واحدة تملؤها الذكريات والروائح النرجسية من شجرة زرعت بيد أبي وأمي وأخوتي
واسقوها بماء الياسمين وأنبتت جود ويزن ونادين وأبي وأمي وعيونهم الكسالى ذابت من شدة البكاء وقاموا بوداعي وكأنها آخر مرة وذابت عيون أخوتي وألتهبت أجفانهم وأصدقائي ما زالوا بجوفي وأصبحت الطائرة جاهزة بعد طول غياب حزينة بلادي اليوم على فراقي وحزين أنا على كل ما فقدته طوال خمسة وأربعون عام مضت فأنا كنت أنتظر طائرتي منذ العام 1966.
لا تصدقوني،،،فأنا قلت لكم بأول خطابي بأني رجل مجنون،،،
فلا تصدقوا كل ما يتلفظه المجانين.
الرجال لا تبكي حتى لو تقطعت أوصالها،،،ولكنها تبكي عندما تفارق أوطانها.
فالمال بالغربة وطن،،،،والفقر بالوطن غربة(سيدنا علي بن أبي طالب)
هاشم برجاق
19-11-2010
الموقع الخاص بالكاتب هاشم برجاق
www.hashem.jordanforum.net