أيمن علي الدولات
أبو نُواس مواطن بسيط من مواليد أواسط القرن الماضي، يملك شاربين كثّين يمكن أن يقف عليهما سربٌ من الصقور، وفي يده اليمنى ندبة عميقة تملأ نفسه كلما رآها أو لمسها فخاراً واعتزازاً تذكرةً للتدريب العسكري أيام الخدمة.
يسمع أبو نُواس الكثير من الحكايات عن المُدخلات والمُخرجات والعمليات الحسابية، والكثير الكثير منها عن السرقة الاختلاس والاحتيال والبورصة وتوظيف الأموال وغسيلها وجني الأرباح والهرب.. ولا يفقه الكثير مما يسمع. أبو نُواس (زهقان وغايب فيله) يمتلك سيارة مرسيدس موديل 1970 تجّره حيناً ويجرها أحياناً، تفاجئه دورية شرطة وتوقفه في أحد الشوارع الفرعية، ولأن ترخيص السيارة منته؛ يبدو عليه الارتباك والخوف فيطلب الضابط هويته ويدقق بها ليكتشف أنه مطلوب لدائرة المدعي العام (مخفوراً)، ينكمش شاربا أبو نُواس ويجدها فرصة سانحة للبكاء وتدمع عيناه رغم أنفه، فيحن قلب الضابط أمام طيبة وبساطة المجرم المفترض فيخلي سبيله طالباً منه مراجعة المحكمة بالسرعة الممكنة لحل قضيته بدلاً من (المرمطة والبهدلة)، ولا ينسى أن يعطيه رقم الطلب ناصحاً إياه الاستعانة بمحام (شاطر!!).
أبو نُواس يلجأ بالسرعة القصوى لمحام (ابن حلال مصفّى) خوفاً من مراجعة المحكمة بنفسه فيخبره المحامي الهمام بعد تمحيص وتدقيق أنه مطلوبٌ بقضية شيك بدون رصيد، وأنه محكوم بسنة حبس مع الغرامة.. يحكّ أبو نُواس ذقنه علّه يتذكر صاحب الدين فلا تسعفه الذاكرة المبتورة من كثرة الديون والدائنين، وتصر ذاكرته رغم ذلك أنه لم يحدث وأن كتب شيكا\" في حياته، ولكنه لا يملك أمام واقع أنه مطلوبٌ (مخفوراً) سوى أن يمتثل (للأخف مرارةً\") ويدبر مائتي دينار كدفعة أولىٰ للمحامي واعداً إياه بدفعة أخرى أكبر قريباً، والذي وعده بدوره (بمطمطة) القضية قدر الإمكان وإنهائها بأقل الخسائر.
يودع أبو نُواس المحامي شاكراً حامداً ممتناً غير مصدقﱢِ أنه خرج حراً، بعد أن زَوّده المحامي (ابن الحَلال المصفّى) بكف طلب وضعه أبو نُواس في جيبه العلوي قريباً من قلبه خوفاً وحرصا.ً. تدور الأيام بأبي نُواس وينسى موضوع الشيك والقضية فيما عدا رقمها (وكف الطلب) العزيز الرابض قريباً من قلبه، لكنه بعد شهور يحتاج لشهادة (عدم محكومية)، فيذهب للمحكمة بكل براءة، يمسك الضابط بهويته فاحصاً متشككاً فيتذكر أبو نُواس قضيته القديمة ويشعر أن الحكم السابق ربما تطور ليصبح الإعدام شنقاً ويهتزُّ بدنه رعباً وخوفاً ويلعن في سره كل المحامين (أولاد الحلال المصفّيين).
يدقق الضابط اسمه لتظهرَ أسبقيةٌ بحقهِ دون تفاصيل، فيعطيه الضابط الهوية وورقة بها رقم القضية طالباً منه إحضار أصل القضية من الأرشيف للاطلاع عليه وتحديد إمكانية منحه شهادة (عدم محكومية) من عدمها.
ينزل أبو نُواس الدرجات الرخامية للمحكمة الموقرة بتثاقل وينقل بصره بين باب الأرشيف وباب الخروج والشرطي الواقف قربه مفكراً بالفرار والنجاة بنفسه لولا بقية من شجاعة غائبة والقليل من الفضول يدفعانه لطرق باب الأرشيف وإعطاء الموظف رقم القضية والهوية مرتعداً ومتسائلاً!!
لحظات ويعود الموظف مقهقهاً ويعطي أبو نَّواس ورقة صغيرة قائلاً: لا تخف قضيتك بسيطة.. عليك غرامة مضاعفة وسوف تدفع الرسوم مرتين لأنك تأخرت كثيراً.
يقبض أبو نُواس على الورقة بأصابعه ويتجه إلى المحاسب مستفسراً عن المبلغ المطلوب؟! فيجيبه الأخير ببساطةٍ: دينارين وعشرين قرشاً، ولو أنك دفعت عند تنازلك عن الحق الشخصي في الحادث لوفرت ديناراً وعشرة قروش!!
يلطم أبو نُواس خديه ويَعُضُّ أصابعهُ العشرين وينهار ذاهلاً !! لقد تذكر جريمته النكراء، صُدمتْ سيارتهُ من قبل شاحنةٍ منذ ثلاث سنوات ولكنها (أَجت سَليمه) ولم يصب بأذى والسيارة كلها (مِشْ مِسْتاهلهْ) فتنازل عن حقه الشخصي في المحكمة وأُسقطتْ القضِّيةُ ، لكنه نسي أن يدفع رسوم الإسقاط.. (دينار وعشرة قروش)!!!!
ayman_dolat@yahoo.com