ان العنف الذي ينفجر اليوم في مشهدنا المحلي من خلال الجرائم المتلاحقة والمريرة التي تحدث هنا وهناك، يؤكد بجلاء أننا نعيش أزمة فكر حقيقية، فإشارات هذا العنف قد بدأت في اللمعان منذ حين معلنة غياب ثقافة الاعتدال عن المجتمع الأردني !! مشاهدة بسيطة لسير السيارات في الطرق والشوارع الإسفلتية تكشف لنا حجم ميل هذا المجتمع إلى العنف، وهل لاحظتم كيف يتحول فرحنا بنصر رياضي مثلاً على مستوى الوطن أو على مستوى الأندية إلى فوضى وشغب!!
كل ما يحدث اليوم من عنف عبر مشاهده كافة، لا يثير استغرابي، ولن ينتزع مني تعليقاً يُلقي باللوم على هذه الجهة أو تلك الفئة. إنها أزمة فكر قبل أي شيء، كما أراها حالة طبيعية جداً لواقع يفضِّل أن يكذب على نفسه، بل ويستمر ذلك، على أن يعترف بأمراضه المتعددة المستفحلة، ويواجهها بالعلاج الناجع خطوة بخطوة، هذه الحالة تنذر بغدٍ أسود، لا يمكن التكهن بمدى الأضرار التي سيخلفها لنا، إن لم نتحرك من الآن، صوب استخلاص العبر والدروس من هذه الشرارات المتفرقة قبل أن تتطور وتلتقي وتتجمع مشكِّلةً تحالف النار الأعمى، وتلتهم مجهود العقود السابقة، أخضره ويابسة على السواء.
لك أن تسأل عن صورة شبابنا اليوم في فيلم يجعلُ الواقع هو "الخياليّ الأكيد"؟ لتتابع المشاهد القاتمة بوضوح يكدر العقل والقلب معاً: جريمة تصل حتى لقتل الوالدين والزوجة والأبناء، شذوذ، انسلاخ، مخدرات (تجارة وتعاطي)، تطرف، والمضيّ طوعا وحباً، وكرهاً أحيانا إلى العدم!.
ماذا يعني الشباب؟. الطاقة، العنفوان، التضحية، الإخلاص والتفاني!
أين تصب هذه الينابيع الفتية؟. لا مصب، فالأنهار مغلقة تضيق بهم، وعليها أن ترتد إلى نهر الداخل المكبوت داخلها حتى تجد أية فرصة أو منفذ تفرغ من خلاله حمولة طاقتها وغليان قهرها، بشكل عشوائي، يدمر ويخرب ويقتل نفسه!.
إذا، ليس ثمة خيار أو هامش متاح؟.
لنجد أنفسنا امام جيلاً مختلفاً في كل شيء، جيلاً متذبذباً متنافر الأفكار، ضحية نظام أبوي، بات يعوِّل على رهان العنف غير المقصود الشيء الكثير، وهو عنف سيبلغ درجة القصدية غداً مستفيداً من أحداث تقع هنا وهناك، جيلا بلا قدوة حقيقية تبث فيه الاتزان عبر السلوك لا التعليمات، إنني أراه اليوم يُطبخ جيداً على نار هادئة، وسيستوي حتماً ليضع طبقه بسهولة على مائدة أصحاب الهوى الخاص، لا ليتغذوا به وإنما ليكون وقود أفكارهم ومطامحهم ونوازعهم الشريرة. أخاف كثيرا، من هذا التصور الذي لابد - لكي نمنعه - من تخيله والاحتياط له، لا عبر الإجراءات الأمنية وزيادة الاحتراس الرقابي فحسب، وإنما بتبديل الواقع قبل أية خطوة أخرى.. ليست البطالة هي المسؤولة وحدها عن واقع شبابنا، إنها فقط إحدى النتائج في ظل غياب، لا مبرر مقنعاً أو منطقياً له، لمتنفسـات فكـرية وفنية تسهـم في الارتـقاء بوعي الشباب: أين المسرح وأين الأندية الخاصة؟ وقبل ذلك أين الخطوات الفعلية لتضييق الاتساع بين طبقتين واحدة ذات ثراء فاحش على حساب الأخرى؟، وما الذي يتم حيال هؤلاء الذين يبذرون الثروات الوطنية بشكل أو بآخر؟
يعلمنا التاريخ أن أي واقع يفقد محبة الشباب فإنه يفقد استقراره!. هؤلاء الشباب، من بقي منهم وبما يعانونه سيكون من السهل اجتذابهم وتكريسهم لخدمة أغراض خاصة تتخذ شكل قضية تثير الحماسة والعواطف!
فهل نلحق بالأمور قبل أن تفلت وتجتاحنا الأعاصير؟ نتطلع بان يكون دور المؤسسات الشبابيه أكثر فاعليه مما هي عليه في استثمار طاقات الشباب ، وهذا ما يرنو إليه قائد هذه البلاد جلالة الملك المعزز حفظه الله، عندما شدد غير مرة في غير خطاب على "أهمية الاستثمار في الإنسان".. وهل هناك أهم من الاستثمار في الإنسان، الإنسان هو الذي يأتي بالازدهار والتقدم، أما هما فلا يأتيان بالإنسان. المجلس الأعلى للشباب أو ما يشابهه أضحى ضرورة ينبغي دعمها من الدولة والقطاع الخاص معاً، على أن تكون له فروعه في كل مناطق المملكة ويعمل جنباً إلى جنب مع المدرسة والبيت في تنمية اتجاهات الشباب وتدريبهم، ومن ثم توجيههم إلى ما يناسب طاقاتهم لاستثمارها بما يفيدهم ويفيد الوطن. أما أن نستمر على هذه الحال: تربية وتعليم شكل، سوق العمل شكل آخر غير بالمرة طبعاً إذا وجد، ومجتمع يفقع المرارة، فإننا سنكون مثل براقش، على نفسها جنت.
خـلـيـل فـائـق الـقـروم