نفس الصور, ونفس المشاهد, في تونس, في الجزائر, في مصر, وغيرها, رجال أمن بزيهم العسكري الوطني أو بالزي المدني يهوون بهراواتهم على مواطن متظاهر أو محتج أو مطالب نشئ ما يفتقده, ربما الخبز أو العلاج أو التعليم أو العمل أو ربما الحرية والسماح بالتعبير عن الرأي والحاجة.
وصورة أخرى ألفناها في الأسابيع والأيام الأخيرة إلا وهي رجلا أمن عربيان يجران مواطنا عربيا في وطنه, متظاهرا محتجا مطالبا بما تقدم من مشروعات انسانية في كل القوانين السماوية والوضعية, يجرانه من يديه أو رجليه شحطا كما بهيمة نافقة أو ذبيحة تجر إلى حتفها دون رضاها.
وصورة ثالثة أزعجتني وأقضت مضجعي, بل وباتت لي كابوسا يحرمني النوم في كثير من الليالي الماضية ألا وهي, تجمع من رجال الأمن العربي يحيطون بمواطن عربي في وطنه متظاهر محتج مطالب بشئ ما, وقد تقوس قوامه أرضا وأقعى ألما, يركلونه بتكرار وحزم على قفاه التي زامت عليها الكاميرات لتوضيح الرؤية.
لماذا انحاز وجداني وغضبي لهذه الصورة الأخيرة أكثر من سابقاتها؟ فالأمر بسيط.
منذ الصف الأول الإبتدائي وهم يحشون فكرنا بشعارات كبيرة ورفيعة وسامية, تصب جميعها في العنوان االرفيع السامي الأكبر ألا وهو, إرفع رأسك فأنت عربي. وقد فعلناها دائما وفي كل الأزمنة والأمكنة وتحت كل الظروف والمناسبات, وحتى في وقت الذل والهوان والهزائم التي سموها رسميونا بالنكسات.
أما عندما يتوازي الرأس والقفا مع الأرض أيها السيدات والسادة للمواطن العربي في وطنه وعلى أرض يحبها ويدافع عن حدودها بالعرق والدم, وعندما يجر ويصفع قفاه أمام العالم ونظره, فلا مجال ولا إمكانية فيزيائية لرفع الرأس, سيما وإن البساطير له بالمرصاد بعد أن تتحول عن القفا المرهق المهروس.
المظلوم المهزوم, والمقهور المجرور, لا يستطيع رفع رأسه أيها السيدات والسادة, الجائع الضائع, والأجير الفقير, لا يستطيع رفع رأسه ولا الشموخ والتحدي, ولا الدفاع عن الأوطان وحماية المنجزات إن وجدت.
نحب الأوطان بحرارة فلماذا لا تحبنا الأوطان أيها السيدات والسادة؟ نقدس الأوطان ونتشرف بالولاء والإنتماء لها, فلماذا لا ترحمنا الأوطان وتقدر مشاعرنا نحوها؟
وظلم ذوي القربى أشد غضاضة على النفس من وقع الحسام المهند.
نعم, قارعنا المحتل والمستعمر وقدمنا ملايين الأرواح والأنفس على مدى قرون مضت دفاعا عن الكرامة العربية والمبادئ التي تعلمناها في شرق الوطن وغربه, وكم طوطحتنا المشانق وحصدت جموعنا الفكرز والرشاشات بأنواعها, وحتى الطائرات من قديمها الذي يشبة الجنادب والجراد, إلى جديدها الذي لا يراه الرادار, وكم طفحنا المر وألوان الذل والعذاب ذكورا وإناثا في أبي غريب وغوانتانامو وغيرها, وكم فضت بكارة الإنسانية لدينا على يدي من لا يخاف الله وليس به من الإنسانية إلا شكلها, وقد خرجنا مصممين كل مرة من وحل الذل والقهر على رفع الرأس كما علمتمونا, لأننا لا نرى الرأس العربية إلا فوق السحاب, ولأننا نصدع بأمر أولي الأمر منا, أن ارفع رأسك فأنت عربي.
حتى انتهى بنا المطاف إلى شعب جائع ضائع مقهور مجرور مظلوم مهزوم, ومن ذوي القربى, وجموع لا تقوى على فتح أفواهها إلا من على مستوى أدنى من مستوى بسطار أمني أو مأجور يدين لزبانيته براتبه الشهري الذي لا يسمن ولا يغن من جوع, ولا يكاد يسد رمق أطفاله, ويستر عوراتهم, كما رأينا في شوارع الخضراء تونس وجزائر ثورة المليون ونصف شهيد وقاهرة المعز والعبور وسويس الاستنزاف والصمود.
ثم أحمد الله وأشكره رغم القهر والحسرة على أبناء جلدتنا وشركاء همومنا في هذه الأقطار العربية الشقيقة, على أن القفا الأردنية ما زالت في مأمن وصون, وأملي بالله كبير, وبمنتسبي أجهزتنا الأمنية الأبطال, الذين يحملون الرسالة السامية في الذود عن الوطن والمواطن والحريات والأمن والأمان, وقد تعلموا مثلنا أن ارفع رأسك فأنت عربي, أن يتابعوا نهجهم الحضاري الراقي في التعامل مع المسيرات والاحتجاجات الشعبية الوطنية التي تعبر عن مداخيل الشعب وهموم المواطنين بالطرق السلمية والقانونية.
\" ولا نريد أن نسمع من أحد, كلمة من فوق \" وشكرا
جمال الدويري