بقلم: د. آية عبد الله الأسمر
لاشك أن التاريخ الإنساني سيخلّد ذكرى الرئيس المصري محمد حسني مبارك كأبرز رئيس حكم أعظم دولة عربية في أشد مراحل الأمة العربية حرجا ودقة وأهمية، فقد لعب حسني مبارك وما زال يلعب حتى اليوم دورا هاما في رسم السياسة المحلية والإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وفي تشكيل لحمة النسيج العلائقي بين دول المنطقة والعالم من حولها.
الرئيس مبارك المنتهي صلاحيته منذ توليه الرئاسة أطل علينا بالأمس في خطابه الذي ظننت –واهمة- لوهلة أنه خطاب استقالة من السلطة أو تنحي عنها، معلنا إصراره على استمراريته في سلطاته وحقوقه الدستورية بالرغم من خروج الملايين من الشعب المصري تطالبه بالرحيل عن مستقبلها الذي شوّهه وبقايا أحلامها التي أتلفها في عهده المشؤوم.
نعم سيخلّد التاريخ ذكرى مبارك لأسباب عدة نذكر منها أنه حكم دولة بحجم مصر التي تتصدر دول الجوار من حيث الموقع الاستراتيجي والمساحة وعدد السكان، والثروات الزراعية والحيوانية والخيرات المائية والموارد البشرية والإمكانات السياحية والطاقة الإنتاجية، والتاريخ العريق والحضارة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ القديم والحديث، ومع ذلك يخرج شعبه المنهك الجائع المكلوم اليائس المقموع الفقير العاطل عن العمل والملقى بين مطرقة الفاقة في مصر وسنديان الغربة بحثا عن لقمة العيش، يخرج صارخا في وجهه مطالبا إياه بعد ثلاثين عام من الاستبداد والفساد والنهب والقهر، بأن يترك له ما تبقى من فتات عساهم يتمكنون من ترتيب البيت المصري من جديد وترميم بقاياه المتهالكة، لتعود مصر –أم الدنيا- وتأخذ مكانتها السياسية والاقتصادية في الصدارة بما يتناسب ووزنها التاريخي والجغرافي والسياسي، بعدما أخرجها مبارك من الدنيا وألقى بها في المؤخرة وضيّق الخناق على شعبها الذي أخيرا كسر القيد بحثا عن الحياة.
سيخلّد التاريخ ذكرى مبارك لأنه تمكن خلال ثلاثين عاما من الحكم من أن يقود مصر بمنتهى الجدارة إلى هاوية اقتصادية سحيقة دمّرت الاقتصاد الزراعي والحيواني وأتلفت المشروع التنموي وأنهكت الشعب المصري ووسّعت الهوّة السحيقة ما بين عامة الشعب الجائع والثراء الفاحش الذي أتخم بطون طبقة رجال الأعمال واللصوص وقنّاصي الفرص ومعدومي الضمير من المتاجرين بالأوطان وبالإنسان، محوّلا مصر برمتها إلى شركة خاصة له وللعائلة المالكة تدر عليهم مليارات الأرباح، حتى قّدرت ثروته العائلية مؤخرا بحوالي أربعين مليار دولار في الوقت الذي يشكو فيه شعبه من البطالة وانعدام الفرص وتردي الأوضاع الاقتصادية.
في عهد مبارك باتت مصر تستورد القطن بعدما كانت تصدّره، وتستورد القمح بعدما كانت تزرعه، ووفقا لبعض الخبراء فإن مصر قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح مما يتوافر لديها من أراض زراعية خصبة وموارد نهر النيل المائية وطاقات بشرية، إلا أن مبارك كرجل أعمال وليس كرئيس دولة جعل القاهرة تحتل المرتبة الأولى عالميا في استيراد القمح ليبلغ واردات مصر من القمح 13 مليون ولا يزيد إنتاجها المحلي عن 2 مليون.
لطالما عرفنا قدرة مصر الإنتاجية سواء على مستوى بعض المحاصيل الإستراتيجية كالقطن أو الثروات الحيوانية أو المحاصيل الزراعية، إلا أن حقبة مبارك المسالم المستسلم المطبّع حول مصر من منتج لما يزيد عن 11 مليون قنطار من القطن تصدر منه حوالي 4 مليون إلى مستورد للقطن، وجعل من المجتمع المصري وهو مجتمع زراعي بطبيعته مجتمعا استهلاكيا يستورد المنتجات الزراعية والدواجن واللحوم والأسماك من شتى أقطار العالم، على حساب الإنتاج المحلي الذي أحرقه مبارك بعقلية المستثمر الجشع لا بعقلية حاكم يسعى إلى وضع مشاريع تنموية قومية، تحقق لشعبها مكاسب معنوية ومادية قصيرة وطويلة الأمد من خلال خطط وطنية عملية مدروسة، تهدف إلى تشجيع الاستثمار في قطاع الزراعة والصناعة والتجارة بغية تحقيق الاكتفاء الذاتي وهو أهم عناصر الأمن القومي لأي دولة كانت.
سيخلّد التاريخ ذكرى مبارك لأن التاريخ الإنساني على اختلاف دياناته ولغاته وأصوله وحضاراته سيذكر دائما رجلا خدم الصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم، وعمل من أجل أمن ورخاء إسرائيل بجد يفوق ما يقوم به أبناؤها البررة الآخرون، وتمكن من تمرير جميع المشاريع الأمريكية الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط بجدارة منقطعة النظير لم يسبقه إليها غيره، لست أتحامل هنا على الرئيس المنتهي صلاحيته إلا أنني وبعد اطلاع واسع على أوضاع مصر الاقتصادية والسياسية، من خلال ما كتبه أبناء الشعب المصري من كتاب وخبراء واقتصاديين وسياسيين فوجئت بأن مبارك لم يكتف بأن حوّل مصر كلها إلى شركة خاصة لحسابه الخاص فقط، بل لقد حوّلها إلى مزرعة إسرائيلية كبيرة عندما أعدم مع سبق الإصرار والترصد الاقتصاد المصري والإنتاج المصري والثروة المصرية والأرض المصرية بمحاصيلها وخيراتها، وحتى حيواناتها ودواجنها وحتى أسماك مياهها لصالح البضائع والمنتجات والأسواق والمصالح الإسرائيلية أولا والأمريكية ثانيا والعالمية ثالثا، فانخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر في عهد مبارك من 9.4% سنويا إلى أقل من 3.6%، وتحولت مصر إلى دولة احتلت المركز الثاني عالميا في حجم المساعدات الخارجية التي تحصل عليها من الولايات المتحدة، ونحن نعي تماما التداعيات السياسية الناتجة عن الاعتماد على الآخر، فمن لا يملك قوته لا يملك قراره ولا كرامته ولا حتى شرفه ووطنه.
تفاجأ مبارك بالثورة كما تفاجئنا نحن بما لديه من ثروة، وبعد خطابه المستهتر بمطالب شعبه بالأمس، خرجت زبانيته تنعق اليوم متهمة ثورة الشعب الجائع الحرة بأنها ثورة إخوان مسلمين منظمة بهدف التخريب، وهل يمكن لأي حزب كان أن يخرب في مصر أكثر مما خرّب فيها الحزب الوطني الحاكم؟
لقد زادت معدلات البطالة في عهد مبارك على نحو لم تعرفه مصر من قبل حيث ارتفعت معدلات البطالة من 5.1% إلى 11.7%، واحتلت مصر المرتبة الأولى عالميا في الفشل الكلوي والتهاب الكبد الوبائي، ويموت الشعب المصري منذ سنوات وأمام الرئيس وشركائه إما بسبب السرطان الذي تصدّره إسرائيل في منتجاتها \"المهرمنة\"، أو بسبب غرق العبارات وتصدع المباني وسقوطها أو تلوث المياه وحوادث الطرق.
ثم يطل علينا وزير الخارجية أبو الغيط معلنا أن تخلّي مصر عن مبدأ المقاومة وتبنّيها للخيار السلمي كان نابعا من رغبة النظام في الحفاظ على أمن مصر واستقرارها وبهدف التفرغ لمشروعات التنمية الداخلية، إلا أن واقع الحال أصدق من لسان المقال، حيث تشير الأرقام إلى أن أعداد ضحايا مشاريع التنمية التي تبناها مبارك ونجله جمال كانت أكثر من عدد شهداء مصر في كل حروبها التي خاضتها وتلك التي توهّمتها!
لقد ركز النظام على مدار ثلاثين عاما على إنجاح إحكام قبضته على السلطة وعلى رقاب الشعب، إلا أنه أفشل الدولة ومؤسساتها وقانونها، وتمكن من نشر الفساد بسرعة وقوة كالخلايا السرطانية في جسد مصر، حتى أصبح المجتمع المصري هزيلا ورخوا وشاحبا مما مهد لخلايا الفساد بالانتشار أكثر وأسرع، وسهّل على الفاسدين والمجرمين أن يستلقوا بأذرعهم الأخطبوطية على جثث الشعب المصري المتعب.
ظن الحزب الحاكم في مصر أنه سيتمكن من عزل شعبه عن العالم من خلال قطع شبكات الاتصال والإنترنت والهواتف النقالة، حتى يتمكن من تسديد ضربته لهم بعيدا عن أعين المنظمات الحقوقية والإنسانية التي زادها هذا التعتيم فضولا ومواكبة للأحداث، وهذا الحصار للشعب المصري يذكرنا بأحداث غزة عندما حاصر مبارك شعب غزة وأغلق معبر رفح بالاتفاق مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية، حتى تتمكن إسرائيل من قتل أبناء الشعب الفلسطيني وأطفاله والتنكيل بهم في حين أن معبر رفح مغلق، والمساعدات الإنسانية مقطوعة والوفود السلمية على الناحية الأخرى تنتظر من مبارك أن يرق قلبه لا كعربي بل كإنسان ليسمح بدخول الإعانات الغذائية والطبية.
إن كان البعض قد انتقد ما فعله السادات في السبعينات عندما عقد معاهدة كامب دايفيد مع إسرائيل، فإن الكل قد نقم على مبارك إزاء ما قام به أثناء الحرب على غزة عندما وقف في خانة العدو الصهيوني، مجسدا موقفه الذي صرح به ذات مرة: \"أنا لا مع دول ولا مع دول\" عمليا على أرض الواقع، بل لقد تطرف في موقفه عندما وقف مع \"دول الإسرائيليين\".
لطالما ترقبنا غليان الغضب في مراجل الكبت في انتظار لحظة الفوران في مصر، والشعب هنا لا يطالب بإقالة الحكومة بل بسقوط النظام، غير آبه بتعليمات مبارك وخططه التنموية التي لم يستطع خلال ثلاثين عاما من تحقيقها، بل نحن نطالب بمحاكمة النظام واستجوابه وعقابه، نريد تعويضا عن سنوات الحرمان والفقر والبطش والظلم والاستبداد، تعويضا عن الأمراض والأوبئة الجسدية والنفسية والفكرية والثقافية والعقائدية التي تفشت بين أبناء الشعب، تعويضا عن أحلام شبابنا التي مزقتها أنياب النظام المتعطش دائما وأبدا إلى المزيد من السلطة والقوة والنفوذ والمال والقمع ليروي ظمأ طمعه الذي لا يرتوي من السلطة والنهب والفساد، نريد تعويضا عن عرق الأجداد الذي لم تجرفه مياه النيل بل جرفته جرّافات إسرائيل السياسية المتعاقدة في الخفاء مع العملاء، نريد تعويضا عن أيامنا التي لم نستطع أن نمرح فيها مع أبنائنا ونستمتع ونحن نراهم يكبرون كسنابل القمح أمامنا، بسبب انهماكنا من أجل لقمة العيش وتأمين الدواء ودفع الفواتير وقائمة طويلة لا تنتهي من الضرائب المشروعة وغير المشروعة، والتي تنتهي في جيوب المتورمين ثراء فاحشا وترفا باذخا في لياليهم الحمراء وعلى متن يخوتهم الفارهة وفي ردهات قصورهم العالية وفي سهراتهم وحفلاتهم المنقوعة في زجاجات المشروب المستورد.
العالم بأسره بانتظار نقطة الصفر حين يتم إسقاط النظام الحاكم في مصر، وعلى الشعب المصري توخي الحذر في انتقائه لحكومته الانتقالية وحاكمه المستقبلي، حتى لا يسمحوا لمقتنصي الفرص أن يركبوا موجة الغضب ويعتلوا عرش الثورة بعد غفوة طويلة لهم لم ينبسوا خلالها بكلمة \"لا\" ولو لمرة واحدة، نريد من الفترة القادمة أن تكون مرحلة تغيير تاريخية حاسمة في تاريخ الأمة العربية، وهذا التغيير لا يتأتى إلا من خلال مصر والسعودية أكبر دولتين عربيتين من حيث الوزن والثقل السياسي.
يستهزئ مبارك بالشعب المصري والأمة العربية الآن بتعيينه عمر سليمان نائبا له، نريد رئيسا يفتتح عهده بتحمل تبعاته تجاه شعبه بل ويتخلى عن مسؤوليته تجاه ما أبرم من معاهدات وصفقات إسرائيلية سابقة لم تصب إلا في صالح العدو، بل وجلبت الخراب والدمار والعار والأوبئة لمصر، وليس مديرا سابقا للمخابرات العامة ومهرولا تاريخيا في مسابقات العدو التطبيعية مع العدو الصهيوني، يأبى مبارك حتى في سقوطه إلا أن يكون خائنا متواطئا يعيّن نائبا على شاكلته الفاسدة الضالة، بل إن الشعب العربي اليوم برمته يبصق على خياره الذي أملاه عليه اللوبي الصهيوني والبيت الأبيض حتى في احتضاره الأخير.
ما يمارسه اليوم مبارك من قتل وبطش وتنكيل بالشعب المصري الثائر لن يحمي عرشه المتآكل، وكلما ازداد عدد ضحاياه سيزداد إصرار الشعب على أن يرفعوا من قيمة دماء شهدائهم بالإصرار على الإطاحة به وبنظامه وليس استبدال شخصه بآخرين من داخل النظام، لحماية الحكومة العسكرية العاجزة عن النهضة بالبلاد سياسيا أو إدارتها بوسائل غير القمع والعصا وغرف التعذيب، يتوجب على الثوار الشرفاء جميعا أن لا يكتفوا بإسقاط أنظمتهم فحسب، بل لابد من محاكمة هذه الأنظمة واستعادة أموالهم المنهوبة من اللصوص الذين ينهبون أموال ومقدرات شعوبهم، بتخويل من القانون ومن خلال ممارسة حقوقهم الدستورية الشرعية، ومن ثم الإلقاء بهم في مزبلة التاريخ حيث يقبع الطغاة والمجرمون كاستجابة طبيعية للقدر، ونهاية حتمية لكل مستبد طاغية جبار يريد شعبه الحياة وتكسير القيد وجلاء ليله المدلهم.