... بغياب قيادة موحدة للمعارضة المصرية وتشتت تلك القوى وتنوع أهدافها وخياراتها في مرحلة ما بعد مبارك واعتقاد كل من تلك القيادات انه الأقرب للوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه كحد أدنى ، لم تجد جماهير الشعب المصري التي خرجت بشكل عفوي إلى الشوارع مطالبة بتغيير النظام من يقودها ويجذر مطالبها ويدفعها نحو التصعيد والمواجهة لفرض معادلة التغيير المنشود ، فتشتت الجهود وتبعثرت الحشود واقتصر تواجدها في ميدان التحرير في القاهرة بعد أن عمت تلك المسيرات معظم المدن المصرية في أيامها الأولى .
نظام الحكم في مصر استثمر تلك الحالة واستطاع أن يحقق أكثر من هدف ، حيث أدرك أن الجولة الأولى للانتفاضة كانت واسعة تشمل معظم المدن المصرية يقودها شباب حركتهم ظروفهم المعيشية الصعبة للخروج إلى الشوارع في غياب برامج وأجندة وطنية شاملة تعالج الأوضاع برمتها ، واستطاعت الحكومة قطع الاتصال والتواصل بين الحشود فتضاربت الآراء والإنباء والتنسيق عن تحركات هنا او هناك ، كما ان محاولة القيادات الحزبية كل على حدا تسويق نفسه بديلا عن النظام دون أي اتفاق يذكر بين الجميع زادت الأمور تعقيدا وضعفا كما هي محاولة ألبرادعي الادعاء قبل أيام انه سيتحدث بأسم الجميع وهو أمر رفضته كافة قوى المعارضة التاريخية في مصر كالإخوان المسلمين والوفد وكفاية والكرامة والناصريين وغيرهم ، فتشتت الأهواء والطموحات وانقسمت المعارضة على نفسها ، وسيتلوها غدا اتهامات بين الجميع تؤدي إلى انقسامات حادة وأعمق واشد كان ينتظرها النظام لتوجيه ضربته القادمة في أية معتركات ديمقراطية قد تشهدها الساحة ، فتبخرت حشود المواطنين في مختلف المدن المصرية وعاد كل منهم الى بيته في ضل تخوفات الانفلات الأمني وحالة الفوضى التي انتشرت في إرجاء المدن .
وعلى صعيد أخر ، ومن اجل مواجهة ما تبقى من حشود جماهيرية ، لجأت وزارة الداخلية وبقرار سياسي مدروس اتخذه وزير الداخلية القوي الحبيب العدلي إلى سحب عناصر الأمن والشرطة من كافة المراكز الأمنية وتركت الشوارع والمؤسسات العامة والخاصة للناهبين والبلطجية وقطاع الطرق من اجل تشويه أهداف الانتفاضة فعمل على تكليف رجال الأمن وأصحاب السوابق بنشر الشائعات والقيام بأعمال النهب والسلب ! إلى جانب أزمة خانقة نتيجة استمرار تناقص الطعام والماء والوقود وطعام الأطفال الذي افتعلته الحكومة المقالة عن عمد وبات المطلب الرئيس للجماهير هو العودة إلى ما قبل الانتفاضة حيث الأمن والاستقرار وتوفر الغذا !
الأمن والحرية صنوان لا يفترقان إلا في بلادنا العربية ، فمن يريد الحرية يحرم من الأمن والعكس صحيح ، وما جرى في مصر هو ضرب مطبق للأمن وتطبيق محكم لسياسة الفوضى المدروسة التي نجح النظام بتطبيقها على شعب مصر ، فكان الأمن والغذا أولويات شعب لم يصمد كثيرا في غيابهما ، وباتت الحرية والإصلاح مطلب ثانوي تعالجه القوى والأحزاب التي فشلت في تنظيم نفسها وتوحيد مواقفها وخذلانها للشعب الذي راهن طويلا على حركتها ، فلا ألبرادعي ولا الإخوان ولا حتى الوفد يمتلكان القدرة على التنظيم والتطوير ولا حتى تنظيم حركة السير في القاهرة وحدها أو إعادة الأمن إلى الناس .
قد يستمر الشعب بالانتفاضة والتحرك ، وقد يستمر الاحتجاج قائما ، لكن بوادر الأزمة المصرية يشير إلى ضعف القوى والأحزاب ، والى مقدرة النظام على تطويق الأزمات حتى لو امتدت إلى كافة المدن ، وما سيجري من تحسين وإصلاح سيكون ضمن الدائرة التي يحددها النظام وليس ضمن ما يطالب به الناس والأحزاب التي أثبتت التجربة أنهم شبه غائبون عما يجري ما لم يقل الشعب كلمة أخرى وموقف أخر أكثر إدراكا وجاهزية لمواجهة أية مفاجآت يفتعلها النظام ، فهل يتعلم شعب مصر وقواه الحية الغائبة من دروس الانتفاضة ! أم أن الحال سيبقى على ما هو عليه !!