قليلون هم من نصاحبهم في اطوار عمرنا المختلفة.. ممن يتسللون إلى أعماق الوجدان.. ليحتلوا مكانتهم في دهاليز الذاكرة العميقة.. ويقفزوا إلى الحضور الحسي في اللحظة، كلما خلا احدنا بنفسه..واستذكر شيئاً من صفحات الماضي الجميل ..
فعندما اغوص في اعماق شعاب الذاكرة ، واعود بها إلى أيام الصبا في خمسينات القرن الماضي، يتبادر إلى الذهن في اول مجالسة لي مع أفاضل تلك الأيام ، وجهاءا أخيارا ، وصحبا كراما ،اتذكر منهم على الفور، الحاج ضعيف المحمد الصالح الحسوني، والشيخ علي المحمد العبدالله العجل،والحاج حميد الصويلح، والزميل علي المحمد الصالح، وأحمد الفتاح، والشيخ ياسين الكراف،والوجيه حسن الظاهر، والملا ضيف الإحميد المصطفى، وعبد الهلوب،وغفور الخليف، وجاسم الصوفي، والحاج علي الجدوع .. وآخرين غيرهم في تردد أقل..وذلك في لقاءات تكررت في ديوان عمومتي الحسن الحمادة في قرية نص تل...الذي كان ديوانهم يوم ذاك عامرا .. ولا يكاد يخلو من السمار.. حيث تحيطنا العمة نجود الصالح الحسوني ،الأم الكبرى للجميع، بكل الحفاوة، والمودة ، والإكرام، في حين يطوف عليهم الشيخ مطلك الصالح الحسن الحمادة، بقهوته العربية المعطرة بالهيل، والتي اشتهر بإجادة إعدادها بمهارة نادرة ، نالت إعجاب الجميع.
ومنذ تلك اللحظة الحاسمة في حياتي..تكررت اللقاءات، واستمرت المزاملة الحميمة معهم.. إلى أن رحلوا إلى جوار ربهم .. فتركوا فراغاً في حياتنا الاجتماعية.. يصعب ملؤه بأصحاب مثلهم بمواصفات العشرة، والأريحية، والثقافة التراثية.. التي اغنونا بالكثير من مفرداتها، وذلك بالرغم من فجوة الجيل بفارق العمر .
لقد كان الملا ضيف رحمه الله، من بينهم .. موسوعة تراثية ..وراوية.. وعارفة.. ونسابة لا يتكرر.. بما يستظهره من معلومات واسعة ، عن العشائر، والتقاليد، والأعراف، والفصول، في ثقافة التراث .. يتلوه في تلك الموهبة، الحاج ضعيف، الذي كان في نفس الوقت، إنساناً حضاريا متقدما على عصره.. بما كان يحمله من خبرة مهنية.. نتيجة عمله مع شركات النفط الأجنبية، في داخل العراق، وخارجه .. وبذلك كان يجمع بين التراث بكل تقاليده وأعرافه.. وبين ثقافة العصر، بكل أبعادها الحضارية بما تراكم لديه من تجربة زاخرة .. وظلت العلاقة معه متينة جداً.. حتى انه قبل وفاته باسبوع.. زارني في قرية السفينة، وقضى معنا يوماً كاملاً.. تجاذبنا معه فيه أطراف الحديث، في مختلف جوانب التراث، وفي مزايا حضارة العصر..
كان الحاج ضعيف، رحمه الله تعالى وجعل الجنة مثواه.. مصدراً رصينا ، نرجع إليه في كل ما نحتاج إليه من أمور تخص التراث، وذلك لقربه منا، وهو ما يحسب له من إيجابيات تأثيره في الآخرين، في مجال تداول أحاديث، وحكايات ثقافة التراث .. باعتباره كان راوية متمكنا.. ونسابة مقتدرا.. وأديبا مفوها، يستظهر الكثير من مشهور قصيد التراث، وقصصه .. حيث كان محققاً منصفا.. يرفض الروايات غير الدقيقة.. ويصوب المخطئة منها.. ولا يقبل الإساءة إلى التراث ، لأنه لم يكن متكسبا، ليمدح، ويقدح.. فهو من اخوات العاجر، فرسان القوم .. ومن وجهاء الديرة ..فلا يحتاج لمن يمدحه.. ولا يأبه بمن يذمه..
لاريب أننا برحيل أولئك الجلساء الكرام، رحمهم الله تعالى ، خسرنا صحبا، وربعا، ووجهاء، وعوارف، لن يجود الزمان بمثلهم .